أمراض وعلاجات

مراكز التأهيل النفسي من آثار العنف

مراكز التأهيل النفسي من آثار العنف

جلسات علاجية تعيد المرضى إلىالحياة!

أثناء الحروب يسقط المقاتلون على الجبهات وثمّة من يسقطون في بيوتهم أو أحيائهم بسبب القصف والدمار. يرى الناس هؤلاء ولكن لا يرون من يسقطون ضحايا نفسيين للحروب، وقد يكونون بعيدين عن الخطوط الأمامية ولكن غير بعيدين عن التأثيرات النفسية الكبيرة التي تتركها الأعمال الحربية والدمار وفقدان الأعزاء والخوف المنتشر في كل مكان. هذا الواقع أكثر ما يتطلب إعادة تأهيل نفسية ومعنوية لتمكّن الأفراد المصابين من تخطّي أزماتهم والتهيؤ للعودة والإنخراط في الحياة المجتمعية والعملية من جديد. عملية معالجة هؤلاء هي بالضبط ما تقوم به مراكز إعادة التأهيل النفسية وخصوصا المختص منها بعلاجات حالات ما بعد الحروب.

للحرب تأثير سلبي للغاية على نفسية الناس، أجنوداً محاربين كانوا أم أناس مسالمين حوّلت الحرب حياتهم الهانئة إلى مآسٍ، ما أثّر على أدائهم ومزاجهم ومشاركتهم في المجتمع.

لذلك، يعمل المجتمع النفسي الدولي بنشاط لمساعدة الأفراد العسكريين، وقدامى المحاربين، وأسر الذين سقطوا ضحايا الحروب، والذين عانوا ويلاتها، في تكيّفهم النفسي مع الحياة خارج الخطوط الأمامية أو تأثيرات المعارك وأجواء التوتّر.

أهداف ومساعٍ وآمال

يحتاج الأشخاص الذين يعانون من مخاوف نفسية، إلى المساعدة أحياناً وفي جوانب مختلفة من حياتهم، بما في ذلك بيئات العمل والمعيشة والحالات الإجتماعية والتعليمية. أحد الأساليب التي يمكن أن تساعد هؤلاء الأفراد على إدارة الأعراض وتحسين الأداء، يُعرف باسم إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي.

وهذا النوع من العلاج مفهوماً وممارسة، بات اليوم أوسع انتشاراً وأكثر قبولاً وإقبالاً لدى الناس. إعادة التأهيل هذه هي نهج علاجي مصمَّم للمساعدة في تحسين حياة الأشخاص المصابين باضطراب عقلي أو تعرّضوا لصدمة نفسية أو تأثروا بويلات الحروب وأهوالها. وهدف إعادة التأهيل هو بداية انتشالهم من حالة الإضطراب والصدمة، ومن ثمّ تعليمهم المهارات العاطفية والمعرفية والإجتماعية، وتحصينهم تجاه ما أثّر فيهم من صدمات، لمساعدتهم على العيش والعمل في مجتمعاتهم والإنخراط فيها بشكل طبيعي ومستقل قدر الإمكان.

فمنذ أواسط القرن العشرين تغيّر النهج المتّبع في علاج قضايا الصحة النفسية والعقلية بشكل كبير وأدى إلى الخروج من المؤسسات التقليدية إلى مراكز التأهيل الحديثة التي اعتمدت أساليب أكثر تطوّراً للتعاطي مع مثل هذه الحالات. وبات يوجد اليوم تركيز على مساعدة الأشخاص الذين يعانون من حالات الصحة النفسية. وتسعى إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي جاهدة للمساعدة في الحد من التأثيرات المختلفة وتعزيز الإندماج الإجتماعي. غالبًا ما يكون التعافي الكامل هو الهدف، ولكن يُنظر إليه على أنه عملية وليس نتيجة. 

وتتمحور إعادة التأهيل النفسي والإجتماعي حول إمكانية تعافي الشخص. وتركز على توفير التمكين والإدماج الاجتماعي والدعم ومهارات التأقلم. ورحلة كل شخص مع هذا العلاج هي رحلة فردية وفريدة من نوعها، ويمكن لإعادة التأهيل النفسي والإجتماعي أن تساعد الأشخاص المصابين في العثور على المعنى والأمل والنمو بصرف النظر عن قدراتهم أو آثار حالتهم.

وعلاوة على الشكل الذي تتخذه الخدمات النفسية والإجتماعية في مراكز إعادة التأهيل، فإن الأهداف الأساسية تشمل مساعدة الناس على الشعور بما يلي:

الأمان: بمعنى عدم الخوف من مخاطر الحرب أو تأثيرها عليه حتى لو كانت ما تزال دائرة، وأنه يمكن أن يكون بمنأى عن ويلاتها. التمكين: حيث يحتاج كل فرد إلى الشعور بأنه قادر على تحديد أهدافه الخاصة وأن لديه القوة والاستقلالية لتحقيق تلك الأهداف. 

الأمل: قد يشعر الناس بالإحباط نتيجة لحالتهم. تركّز إعادة التأهيل على مساعدة المرضى على الشعور بالأمل بشأن المستقبل.

المهارة: تهدف إعادة التأهيل إلى تعليم الأشخاص مهارات تساعدهم على إدارة حالتهم وعيش الحياة التي يريدون أن يعيشوها. ويشمل ذلك المهارات الحياتية، ومهارات العمل، والمهارات الاجتماعية، وغيرها. وتتضمن عملية إعادة التأهيل الفعالة خطة شاملة تعالج حياة المريض وأدائه الوظيفي. 

وبدلاً من مجرّد التركيز على نقاط الضعف، تركز إعادة التأهيل النفسي والإجتماعي على تمكين الأفراد والبناء على قدراتهم الحالية. وتساعد هذه القدرات في تشكيل الأساس الذي يمكن من خلاله تطوير المهارات الحياتية المهمة الأخرى عبر الملاحظة والنمذجة والتعليم والممارسة.

وتشدد مراكز التأهيل على بعض المجالات مثل المهارات والتدريب والخبرات المصممة لتعزيز المرونة والصلابة الذهنية، والقدرة على حل المشكلات وتسهيل الدخول إلى الحياة العملية.

مراكز أكثر وطرق أحدث

تعد المهارات الاجتماعية والأداء بين الأشخاص جزءًا مهمًا من إعادة التأهيل النفسي والإجتماعي. قد يستهدف التدريب على المهارات، الأنشطة المصمَّمة لمساعدة العملاء على العمل بشكل أفضل في محيطهم الإجتماعي، بما في ذلك الأسرة والعمل والمدرسة والصداقات والرومانسية. ويتم تحقيق ذلك من خلال تدريس المهارات المتعلقة بالفهم العاطفي، وحل المشكلات بين الأشخاص.

وقد وجدت دراسة أجريت على مرضى الإنفصام والاضطرابات العاطفية أن إعادة التأهيل النفسي والإجتماعي كانت مرتبطة بفوائد كبيرة في مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك العلاقات الأسرية، والتواصل، والمشاركة المجتمعية، والرعاية الذاتية، وإدارة الأموال، والنقل، والقدرات المهنية. وأظهرت الأبحاث أيضًا أن إعادة التأهيل النفسي والإجتماعي يمكن أن تكون مفيدة لتحسين رفاهية المريض وتوقعاته.

 في إحدى الدراسات المنشورة في مجلة Research on Social Work Practice، أظهر 78% من الأطفال الذين يعانون من اضطرابات عاطفية خطيرة تحسينات كبيرة في الأعراض النفسية والأداء النفسي والإجتماعي بعد 13 شهرًا من إعادة التأهيل. وللإضاءة أكثر على ضحايا الحروب كان لا بد للبحث الذي قامت به مجلةالمستشفى العربيمن أن يتناول النقاط الساخنة في العالم، وما قامت به تلك المجتمعات لمساعدة ضحايا الحروب النفسيين للتخلص من آثارها، ودور مراكز إعادة التأهيل النفسي والإجتماعي فيها. ومن هذه النقاط موضوع البحث، على سبيل المثال لا الحصر، أوكرانيا وأوغاندا والكونغو ومراكز تأهيل دولية في الدانمارك.

قطاع غزّة

نظرًا لفظاعة ما يتعرّض له قطاع غزة من مجازر ودمار ومعارك عنيفة، فمن الطبيعي أن يكون هناك ضحايا نفسيون لهذه الحرب، يضافون إلى الشهداء والمعوقين والجرحى. وكما في كل الحروب كان لا بد من إعادة تأهيل جسدية أو نفسية. وهذا ما بادرت إليه منظمات ومراكز تأهيل في غزة وخارجها سواء في الضفة الغربية أو عبر العالم العربي، حيث بادر العديد من الحكومات والمؤسسات إلى تقديم المعونة على هذا الصعيد. وتصدرت الدول الخليجية قائمة البلدان التي بادرت إلى تقديم خدمات إعادة التأهيل النفسية للضحايا المزدادة أعدادهم وتعقيد حالاتهم كلما طالت الحرب.

فبعد 100 يوم على الهجوم على غزة، هناك 100 ألف شهيد وجريح ومفقود، ودمار غير مسبوق في المباني والمنشآت والبنى التحتية، ونظام صحي منهار، بادرت دول خليجية إلى نقل من هم في حاجة ملحة إلى إعادة تأهيل نفسي إلى مراكز خارج القطاع وبدأت بتقديم العلاج المطلوب لهم. كما يواصلبرنامج غزة للصحة النفسيةوهو منظمة فلسطينية غير حكومية تقدم خدمات الصحة النفسية لسكان القطاع، خدماته (ما استطاع) لمساعدة النساء والأطفال وضحايا العنف والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض له الغزّيّون. تضم المنظمة أكثر من 135 موظفًا، وتشارك في 18 تحالفًا وشبكة دولية وإقليمية ومحلية، وقد تعاملت مع أكثر من 20 ألف شخص وجهة وفق اختصاصها.

أوكرانيا

يشارك علماء النفس من المركز المجتمعي للدعم النفسي، بنشاط في إعادة التأهيل النفسي للأوكرانيين المتضررين من الحرب منذ يونيو/ حزيران 2022. ويتم تنفيذ مشاريع إعادة التأهيل النفسي بالتعاون مع علماء النفس من المؤسسات التعليمية الرائدة في الولايات المتحدة، مثل كلية المعلمين في جامعة كولومبيا ومركز علم النفس العصبي في لويزيانا.

أحد هذه المشاريع هو مركزألوان الحياة، حيث يقوم أخصائيون نفسيون بإجراء جلسات علاج بالفن واستشارات نفسية للمحاربين القدامى والعسكريين وأقاربهم. فخلال فترة الحرب، زاد بشكل كبير عدد المشاريع التي تنطوي على إعادة التأهيل النفسي. ومن الملاحظ أنّ النتائج كانت إيجابية في الحالة النفسية التي تغيّرت بعد بضع جلسات فقط. فراح المرضى يبدأون في الابتسام والمزاح والانفتاح بطرق جديدة، وتستقر حالتهم، كما يقول ألكسندر زاركوف، رئيس مجموعة علماء النفس والمؤسس المشارك لـ المركز المجتمعي للدعم النفسي في كييف.

هذه المراكز تكون مجهزة بأحدث التقنيات مثل الواقع الافتراضي والروبوتات، مما يوفر نهجًا متعدد الأبعاد لإعادة التأهيل. ويتمثل الطموح الأساسي في تمكين المتضررين من الحرب من اعتناق الحياة من جديد بأمل وكرامة. ولكن حتى عندما تصمت المدافع ويحل السلام، فإن الكثير من الأوكرانيين سيواصلون نضالهم الشخصي، في صراع مدى الحياة، بحسب زاركوف. ووفقا لتحليل علماء النفس المنزليين، هناك حوالى 40% من الأوكرانيين سيعانون اضطرابات ما بعد الصدمة بسبب الحرب. 

أوغاندا

الحالات النفسية للمراهقين المعرضين للحرب في أوغندا باتت واسعة ومقلقة. لذلك كان لا بدّ من إيجاد الطرق المناسبة لإعادة التأهيل. فتمّ العمل على إعادة الإدماج بعد الحرب على الرغم من التحديات الهائلة. ويتمثل أحد هذه التحديات في إيجاد طرق مناسبة لإعادة التأهيل أثناء عملية إعادة الإدماج، خصوصاً للمراهقين المختطفين سابقًا والذين تعرضوا لأحداث الحرب والذين 

عانوا من ضائقة نفسية. وفي تصميم مقطعي، شارك في الدراسة 294 مراهقًا تتراوح أعمارهم بين 12 إلى 19 عامًا في ثلاثة مراكز لإعادة التأهيل. تعرّض المراهقون لأحداث حرب مقلقة وشاركوا في فظائع مروعة. ونتيجة لذلك، كان العديد منهم يعانون من ضائقة نفسية بسبب حالات عقلية غير صحية تحتاج إلى المعالجة والتخلّص منها وإعادة الإدماج. 

سجل الأطفال درجات عالية في أعراض ضغط ما بعد الصدمة. وقد أوضحت تجربة التعذيب ما بين 26 إلى 37% من التباين في أعراض الإجهاد اللاحق للصدمة. ويتمثل التحدي الذي يواجه الأطباء في استخدام نهج شمولي لعلاج الناجين من التعذيب من خلال التعرف ليس فقط على الشكاوى الجسدية ولكن أيضًا أعراض التوتر والحالات النفسية. وهذه الحالات قد تكون لها عواقب طويلة الأمد تمامًا مثل العواقب الجسدية. وفي ذروة الصراع، قام مركز إعادة التأهيل بتيسير تعافي أكثر من 18 ألف شخص. 

الكونغو 

تعاونت منظمةالأطفال غير المرئيينمع القادة الكونغوليين وخبراء إعادة التأهيل الدوليين، بما في ذلك لجنة العدالة والسلام (CDJP) ورعاية أطفال أوغندا، لإنشاء مركز إليكيا في دونغو، جمهورية الكونغو الديمقراطية. تمت إدارة البرنامج من قبل متخصصين كونغوليين في إعادة التأهيل مدربين تدريباً احترافياً ومجهزين لخدمة ما يصل إلى 150 طفلاً في أي وقت. وقد تم تصميمه لخدمة الأطفال لمدة ستة أشهر قبل لم شملهم مع أسرهم، وإعداد الأطفال لإعادة الاندماج الناجح في المجتمع ومتابعة الدراسة من خلال السعي لاستعادة صحتهم العقلية، أو مساعدتهم على التطور إذا تجاوزوا سن المدرسة. 

وقد ركزت معظم الأنشطة على تعليم الأطفال كيفية التعامل مع الصدمات التي يتعرضون لها وفهمها. ومنذ إنشائه في مايو/ أيار 2012، استضاف مركز إليكيا 200 طفل من جمهورية الكونغو الديمقراطية في برامج إعادة التأهيل وإعادة الإدماج. 

الدنمارك

في الدانمارك كان النشاط أوسع وغير محلي، حيث تعمل منظمة DIGNITY على ضمان حصول الناجين من التعذيب في جميع أنحاء العالم على إمكانية إعادة التأهيل المهني. وتتم إدارة عيادة اللاجئين المصابين بصدمات نفسية وعائلاتهم. وعلى المستوى الدولي، يعمل المركز مع شركاء محليين في عدد من البلدان لتسهيل تقديم المساعدة للنساء والرجال والأطفال المصابين بصدمات نفسية في المناطق الضعيفة والفقيرة. 

والعلاج في المركز لا يقتصر فقط على اللاجئين المصابين بصدمات نفسية وعائلاتهم، بل أيضًا على زيادة فرصهم في العثور على وظائف وعيش حياة أفضل. وللعلاج تأثير إيجابي على الأطفال وفرصهم للنجاح في المدرسة والأنشطة الترفيهية. وقد يحدث العنف في السجون وليس فقط بنتيجة القصف وشدّة المعارك.

الصحّة هي الأساس

ثمّة مسألة مهمّة في إطار إعادة التأهيل النفسي والإجتماعي وهي أن معظم المصابين أو من هم في حاجة إلى إعادة التأهيل، فقراء أو لا يملكون كل الإمكانيات الكفيلة بوصولهم إلى العلاج، من هنا أهمية وجود مراكز العلاج المجانية أو شبه المجانية المدعومة من الحكومات أو المنظمات والجمعيات الدولية أو المحلية، ما يضمن أن يصل العلاج إلى كل من هم في حاجة إليه. 

فخلال فترة الحرب الشاملة، زاد بشكل كبير عدد المشاريع التي تنطوي على إعادة التأهيل النفسي. ويلاحظ المتابعون نتائج إيجابية من عملها، فالتغييرات في الحالة النفسية للمعالَجين تَحدُث بعد بضع جلسات فقط. 

إن الخوف والرعب والعجز والغضب لدى الجنود والمدنيين على السواء، تَنتُج عنها حالات  نفسية وحتى عقلية معقّدة. ولكن من خلال وجود معرفة واسعة النطاق بنقاط الضعف والقدرة على الصمود لدى الناجين من الحرب، يقوم المتعاونون في إعادة تأهيل الصدمات بعد الحرب والصراع بتحليل عمليات إعادة التأهيل وبرامج التدخّل الناجحة في المناطق المتضررة من الصراعات في العالم. 

لكن في خلاصة كل ما سبق، كما يقول الأخصائيون،أن الصحة هي العنصر الأساسي الذي بدونه لا يستطيع الإنسان أن يعيش”. وما يجدر التركيز عليه أن الصحة النفسية لا تقل أهميّة واهتماماً عن الصحة الجسدية فكلتاهما متلازمتان ولا سلامة لواحدة في حال اعتلال الأخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى