مقابلات

“كاريتاس” دواء الفقير ومُسعِف المحتاج

كاريتاسدواء الفقير ومُسعِف المحتاج

الأب ميشال عبود: بتعاضدنا نصنع المعجزات

كتب: سيمون سمعان

تقوم رابطة “كاريتاس لبنان” بدور هام على صعيد مساعدة المجتمع وتوفير ما أمكن من الرعاية على المستويات كافة ضمن ما يسمح به نظامها من جهة، وتتيحه إمكانياتها المحدودة من جهة ثانية. فمثلاً قسم الرعاية الصحيةّ في الرابطة يقدم خدمات الرعاية الصحية الأولية من خلال الطب الوقائي والعلاج، ويقوم بتقديم مجموعة من خدمات الرعاية الصحية التي تركز على تعزيز الصحّة والوقاية من الأمراض، بالإضافة إلى تشخيص المرضى وعلاجهم وتوفير دعم طويل الأمد ومستمر لهم ولعائلاتهم: الأطفال والبالغون والامهات وكبار السن. ويتكوّن قسم الصحة في رابطة “كاريتاس لبنان” حاليًا من 10 مراكز رعاية الصحية و9 وحدات طبية متنقلة. وإلى ذلك تقدِّم إستشارات طبية وخدمة المسعفين وتوزيع الأدوية والرعاية التمريضية والمعاينات الشتخيصية والتلقيح، وطبعًا غيرها الكثير من الخدمات التي تقدَّم عبر الرابطة.

خلال السنوات القليلة الماضية، ونظرًا لما تعرّضَ له لبنان من أزمات وأوبئة وحروب، ارتفع ضغط الطلبات على رابطة “كاريتاس لبنان”، وزادت الحاجة إليها فتشعّبت مهماتها بحيث كانت أكثر اضطرارًا للوقوف إلى جانب المجتمع. وكما بات معروفًا أرخت أزمة كورونا ثقلها على المستويين الصحي والإجتماعي. وما كان من الأزمة الإقتصادية المالية التي ضربت لبنان إلا أن أفقدت المواطنين قدرتهم الشرائية، كما فقد البعض وظائفهم. وقبل أن تتيح الظروف إعادة ترميم الوضع، جاءت الحرب مع إسرائيل لتزيد الأزمات تفاقمًا وحاجة المواطنين حدّةً.

مهمات حقيقية ونتائج محقّقة

اللافت أن “كاريتاس” ما تلكأت ولا تذرّعت يومًا بالصعوبات، بل ضاعفت جهودها لتكون عند انتظارات الناس، ولتأدية أبسط ما عاهدت الناس به عبر رسالتها المعروفة في الوقوف بجانبهم خصوصًا في الأزمات التي تزيد من حاجتهم إليها.

وهنا يكشف رئيس رابطة “كاريتاس لبنان” الأب ميشال عبّود لمجلة “المستشفى العربي”، أنه لا بد من التمييز بين الأزمة وأزمة ما بعد الأزمة. ويشرح: ضربت لبنان أزمة إقتصادية ثم أمنية وكانت التداعيات كبيرة والظروف شبه مغلقة. ثم أتت أزمة ما بعد الأزمة والتي تمثّلت بأن آثار الأزمتين الأمنية والإقتصادية جعلت العديد من المواطنين بلا عمل وبالتالي بلا مدخول. فهناك أكثر من 150 ألف فرصة عمل خسرها اللبنانيون، وهذا ما يُعرَف بالأزمة الخفية. ومعلوم أن هذا الواقع يولّد تداعيات نفسية وصحية وسط غياب أية إمكانية لدى هؤلاء للعلاج أو حتى الخضوع للإسعافات البديهية والتداوي. ولو توفّرت إحصائيات كاملة لظهر كم من اللبنانيين اليوم غير قادرين على دخول المستشفى، علمًا بأن الجهات الضامنة التابعة للقطاع العام تدفع بدلات الإستشفاء بالليرة اللبنانية، ما لا يُشكِّل إلا نسبة ضئيلة من الفاتورة الإستشفائية، بحيث يعجز المريض عن تأمين المتبقي مهما كان الرقم”.

ويضيف: “من بين هؤلاء كانت “كاريتاس”، من أصل فاتورة قيمتها مثلاً أربعة آلاف أو خمسة آلاف دولار، يحصل المريض لتغطيتها من الضمان الإجتماعي على حوالى خمسة ملايين ليرة أي ما يساوي تقريبًا 55 دولارًا، تدفع “كاريتاس” بين الـ500 والألف حتى الألفي دولار. وتبقى غير كافية. وهناك مرضى كانوا يقولون أتركوا هذا المبلغ لشخص يمكن أن يعيش واعطوني جرعة قاتلة لأني أريد أن أموت. تصوّروا قساوة هذا الواقع ومرراته”! وبالفعل هناك كثر توفوا لأنهم لم يتمكنوا من شراء دواء أو دخول مستشفى، أو عدم تناول الدواء بانتظام بل عندما يتوفر لهم تأمينه. وللحقيقة، هناك أشخاص كانوا ميسورين وتجمدت أرصدتهم في المصارف بسبب الأزمة، يأتون إلينا ويقولون: لدي عملية ضرورية تكلفني خمسة آلاف دولار لا أملك منها شيئًا في يدي، لكن لدي 20 أو 30 أو 40 ألف دولار في البنك، خذوها وأمنوا لي كلفة العملية”.

وتابع: “ٍومن مظاهر الأزمة الخفية أن هناك موظفين كبارًا كانت معاشاتهم بين الـ6 ملايين والـ 10 ملايين ليرة قبل انهيار العملة الوطنية، أي ما يراوح بين الـ 4 آلاف والـ 6 آلاف دولار. اليوم نراهم يقفون في الصف أمام فروعنا للحصول على الدواء لأن معاشهم الذي بات يوازي حوالى الـ200 دولار، ما عاد يكفيهم لتأمين أبسط مستلزمات الحياة الضرورية. وهنا أيضًا لم تتأخر “كاريتاس” بل كانت الجسر بين المانحين وفاعلي الخير، وبين الأشخاص المحتاجين خصوصًا للإستشفاء”.

ويقول الأب عبود: “إن ثمّة اقتراحًا بهذا الشأن أن يقوم المانح بتوفير بوليصة تأمين صحي لشخص يريد مساعدته بدل أن يمنحه هذا المبلغ مباشرة. وهكذا يكون قد ساعده وساعد المستشفى وشركة التأمين. وفيما نجد أن هناك جمعيات يقتصر نشاطها على فئات محددة من المجتمع، نجد أن “كاريتاس” للجميع. ولذلك نرى أن هناك رجال أعمال يضعون بتصرفنا مبالغ مهمّة لاستثمارها نظرًا للثقة الراسخة بعمل “كاريتاس” وأهدافها والشرائح الواسعة التي تطالها”.

كذلك، أن يضع رجل أعمال أو جهة مانحة بين أيدينا مبلغاً، مليون دولار مثلاً، ينوي استثماره في مجال التأمين الصحي ولا يملك الهيكلية اللازمة، فنحن نملك هذه الهيكلية والعناصر البشرية والتنظيم والإنتشار، وأهم من كل ذلك المصداقية. وبهذه الخطوة يكون هو استفاد بنتيجة استثماره وأفاد الجهات والمؤسسات والقطاعات ذات الصلة.

أيضًا نسعى إلى تأمين الدواء لمحتاجيه والعاجزين عن تأمينه وهم كُثر. ونعتمد في ذلك، إما على هبات من فاعلي خير يحدِّدون وجهة استعمال المبالغ الموهوبة من قبلهم لشراء الأدوية، فتعمد “كاريتاس” إلى استدراج عروض وتستخدم المبلغ بحسب الإتفاق لشراء الدواء بالنوعية الجيدة وبالسعر الأنسب. وإما على هبات من أفراد أو شركات أدوية تمنح هبة عينية كناية عن كميات من الأدوية المطلوبة لا سيّما للحالات الحرجة والمزمنة. ولكن هذا الأمر تعترضه صعوبات، منها مسألة النقل وشروط التخزين والتخليص ودولة المنشأ وفترة الصلاحية وسواها. في المقابل فالمبلغ الذي يشتري في الخارج 100 علبة دواء، يشتري حوالى 300 علبة من السوق المحلي. لذلك نفضل أن نحصل على المال بدل الهبات العينية خصوصًا أن عملية الإنفاق هنا مراقبة وشفافة وآمنة مئة بالمئة.

المسؤولية الإجتماعية أساس

بسؤال رئيس “كاريتاس لبنان” عمّا إذا كانت المساعدات تقتصر على الداخل أو مناطق بعينها، أم أنها تأتي من مناطق مختلفة منها منطقة الخليج مثلا والتي تركز حكوماتها وقطاعاتها على المسؤولية الإجتماعية، وكيف يمكن أن تساعد في ذلك؟

يجيب الأب عبود أن الدول الخليجية والشركات الرائدة فيها تعمل بقوة على ضمان عيش لائق ورفاه الإنسان من غير تمييز، بل بدفع راقٍ نحو أعلى مستويات الحياة جودةً. ومن صلب رسالة المؤسسات الصحية دأبها نحو الارتقاء بالمجتمع، فقد أدركت المستشفيات على مستوى العالم العربي ودول الخليج أهمية دورها الأخلاقي في مجال التوعية فأقدمت على وضع آليات وخطط عمل تتمحور حول حث المعنيين على التعاضد والتكاتف لبناء مجتمع معافى.

ويعلم الجميع أن المستشفيات تقوم بإطلاق مبادرات جديدة على نحو متزايد كجزء من برامجها المتعلقة بالمسؤولية الإجتماعية ونزعتها الخيرية التي دخلت في صلب عملها، حيث تقع على عاتقها مسؤولية أخلاقية لنشر الوعي والثقافة بين أفراد المجتمع عبر توسيع دائرة الأنشطة التوعوية وتعزيز خدمات التعليم والصحة. ففي ظل التطورات المتسارعة التي يعيشها القطاع الطبي على مختلف الأصعدة، برز مفهوم المسؤولية الإجتماعية ضمن المفاهيم الحديثة على اعتبار أن أي مستشفى هو جزء من المجتمع، وبالتالي من واجبه خدمة المجتمع وربطه بحقل الرعاية الصحية. وذلك من خلال تبني البرامج وحملات التوعية والمبادرات السنوية.

ويشير إلى أن مثل هذه البرامج تعود بالنفع على المؤسسات الصحية المانحة نفسها إذ تظهر من جهة مدى التزامها بصحة المواطن وليس فقط بتحقيق المزيد من الأرباح، ومن جهة ثانية تتيح مثل هذه المساعدات الداعمة للمرضى غير المقتدرين أن يدخلوا المستشفيات، فيكون بذلك قد تحقق الهدفان معًا: الإنساني والتشغيلي.

ويلفت إلى أن لدى رابطة “كاريتاس لبنان” إتفاقيات تعاون مع المستشفيات تُنظِّم العلاقة وتتضمّن تفاصيل نسبة التغطية من الفاتورة الصحية للمريض ومن تنطبق على حالته شروط التغطية وحدودها. ويشدد على أن هذا البروتوكول يشمل كل مستشفيات لبنان تقريبًا. أما لناحية اختيار الحالات، فأحياناً نختار الأكثر حراجة بغض النظر عن التكلفة، لكن عادة نعتمد تغطية الحالات القليلة الكلفة لنتمكن من تغطية أكبر عدد ممكن من المرضى.

ويضيف: “هنا لا بد من الإشارة إلى أن لدى “كاريتاس” مستوصفات ومراكز علاجات أولية وطب أسنان تخفّف من كلفة هذه الإجراءات الطبية على المريض، من دون ترتيب أعباء كبيرة علينا. وهذه المراكز الموزّعة الإنتشار تؤمِّن خدمات متنوعة وآمنة للمرضى من دون كلفة تذكر”.

إرتفاع الطلب وشحّ الموارد

اليوم الطلب على خدمات “كاريتاس” يرتفع فيما الموارد لم ترتفع بالنسبة نفسها. فقبل الأزمة كان المرضى المنتسبون إلى الضمان الإجتماعي أو إلى تعاونية موظفي الدولة أو غيرهما من الهيئات الضامنة، لا يحتاجون إلى خدماتنا لأنهم يتمتعون بتغطية مقبولة، أمّا بعد الأزمة وبسبب انهيار قيمة العملة اللبنانية، فقد بات كل هؤلاء وسواهم في حاجة إلى مساندة ليست متوفرة في غالب الأحيان. من هنا أهمية التعاضد الذي تنادي به الرابطة لتتمكن من سد هذه الفجوة الكبيرة في الفاتورة الإستشفائية وتأمين الخدمة الصحية اللائقة لكل مريض.

اللافت أن “كاريتاس لبنان” لم تتأثر بالأزمة بحسب رئيسها الأب ميشال عبود، وذلك بسبب حسن الإدارة ودقة التنظيم والحكمة في توظيف ما يصل إليها من مبالغ مالية وهبات عينية. ولكن مردّ الضغط المتزايد على خدماتها هو أن عدد طالبي هذه الخدمات زاد بسبب الأزمة المالية التي ضربت لبنان، وبعدها تفجير مرفأ بيروت وثم الإضطرابات الأمنية وترهّل الإدارة العامة والحرب.

وهي اليوم على الرغم من كل ذلك تقوم بعمل جبار، وإن كان لا يكفي كل الحالات أو كل طالبي الخدمات، لأن لا أحد مكان الدولة بنظام صحي متكامل وناجح، إلا أنه يساهم في تضميد الكثير من الجراح الجسدية والنفسية والإجتماعية بإمكانيات تكاد لا تذكر. ولدى “كاريتاس” اليوم العديد من المشاريع والبرامج الواعدة للمستقبل والتي يؤمل أن تصنع حقيقة الفرق المطلوب، لو تأمن لها التمويل الكافي. فهذا التمويل سيكون بالغ الفعالية عبر الإدارة المنتجة التي أثبتت نجاحها الكبير بإثبات قدرتها على تخطي كل ما واجهته من جبال الأزمات!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى