القطاع الصحي اللبناني… استراتيجية جديدة ونهضة لاستعادة الدور
القطاع الصحي اللبناني… استراتيجية جديدة ونهضة لاستعادة الدور
لعب لبنان في السنوات السابقة للأزمة الحالية دوراً ريادياً في مجال الخدمات الطبّية التي كان يقدّمها في مؤسساته الإستشفائية والمستوصفات المنتشرة في المناطق كافة. وقد استحق لقب “مستشفى الشرق” نظراً لجودة الخدمات المقدّمة ومستوى الرعاية العالي وكفاءة الطاقمين الطبي والتمريضي. هذا الواقع، نجح على مدى عقود في مَنْح لبنان ميزة التفرّد بخدمات إستشفائية كانت تسهم، على رغم الإمكانيات التقليدية، بإدخال رساميل لا بأس بها إلى المؤسسات الصحية والبلد ككل. أما بعد جائحة كورونا وأزمات السنوات الأخيرة، فكيف يتصرف القطاع الصحي اللبناني ليستعيد مجده السابق وعزّه الغابر؟
يعلم الجميع أن أي قطاع عَبَر أزمتين خانقتين وعلى مدى أكثر من ثلاثة أعوام، تلزمه قواعد معينة لاستعادة المبادرة وإعادة الزخم إلى ما كان عليه. ويعلم الجميع أن هذه الأسس يلزمها في أي بلد، تعاون القطاعين العام والخاص. أما في لبنان، وبسبب مصاعب القطاع العام فقد أخذت المؤسسات الصحية والإستشفائية على عاتقها إعادة النهوض، من استيعاب الصدمة إلى ابتكار المخارج وصولاً إلى توقيع المستشفيات بروتوكولات مشتركة في ما بينها لتفعيل الإمكانيات. وهي وبدأت بناء استراتيجيات عمل تتلاءم مع المعطيات الجديدة ومتطلبات الحداثة. حتى إن مستشفيات جديدة هي قيد الإنشاء تتحضر اليوم لدخول القطاع.
الإستراتيجية اللبنانية للصحّة
شهد القطاع الصحي اللبناني مؤخراً خطة نهوض جديدة عُرِفت بـ”الإستراتيجية الوطنية للصحة – رؤية 2030”. وقال وزير الصحة اللبناني الدكتور فراس أبيض الذي كشف عن الخطة، إن الغاية منها “حصول الجميع على رعاية صحية كاملة في المستقبل من دون الوقوع في ضائقة مالية”. وإن من أهداف الإستراتيجية، “تسليط الضوء على الأولويات، وضمان حصول الجميع على رعاية صحية ذات قيمة وجودة عاليتين”، بينما هي تتمحور بشكل أساسي حول “حاجات الأفراد”. كما ستساعد الإستراتيجية في مواءمة جهود الدعم الدولي المقدّم للبنان ومضاعفته. وستشكل قاعدة للإستجابة المنسّقة، إن كان للإحتياجات الصحية الطارئة أو لبناء نظام صحي متكامل ومتين. منطلق الخطة، أن مراكز الرعاية في لبنان بحاجة إلى دعم على مستويات عدّة، لذلك فهي تهدف إلى تنظيم كيفية إنفاق الأموال التي تأتي من الجهات المانحة من خارج البلاد. وهناك قسم منها يتمحور حول التحوّل الرقمي نظراً لأهميته حاضراً ومستقبلاً، لا سيما في المجال الطبي. فمن المهم تتبُّع سير الأدوية الواردة من الخارج لضبط الغش الذي يحصل فيها أحياناً، كما يجب تتبُّع حركة الأدوية في الصيدليات وذلك لمصلحة الجميع. ويتحدث العديد من قادة القطاع الصحي في لبنان عن أن البلد يتحضّر لنقلة نوعية على هذا الصعيد، مشيدين بفئتين من المساهمين في هذه النهضة: المموّلون، وهم عصب أي مبادرة لتوسيع القطاع وتحديثه، ولإعادة رفده بما يحتاج من مستلزمات. والمتخصّصون الطبّيون، وهم الأساس في رفع المستوى الطبي في لبنان إلى الذروة وتخطّي كل ما ألحقت به أزمة كورونا والأزمة الإقتصادية من تداعيات.
طائر فينيق صحّي
وسط هذه الخطط الهادفة إلى تزخيم حركة القطاع الصحي اللبناني وتجويد خدماته كان لا بد من العمل على تنشيط السياحة الصحّية. وهذا القطاع لطالما كان لبنان بين المتفوقين به بين عدد قليل يجيده من بلدان المنطقة. اليوم يتبيّن أن المنافسة متسارعة الحدّة في هذا المجال، فقد باتت دول العالم قاطبة في سباق محموم لاستقطاب السياح بهدف العلاج أو النقاهة. وبات هذا الجانب من الممارسة الطبية يستقطب ملايين الأشخاص ويدر مليارات الدولارات.
ولبنان الذي كان رائداً في هذا المجال تلقى مجموعة من الضربات الموجعة وفي آن واحد. فتزامنت الإضطرابات السياسية والإنهيار المالي واستمرار تدفق النازحين ووباء كورونا، خالقةً ظروفاً أدت مجتمعةً إلى إرهاق شديد لنظام الرعاية الصحية. وما كان ينقصه ليزداد حدّةً إلا تقليص الميزانية الإجمالية لوزارة الصحة في لبنان من 486 مليون دولار عام 2018 إلى أقل من 37 مليون دولار عام 2022. من هنا كان تدخّل القطاع الخاص في محاولة لسد هذه الثغرة ولو في جوانب أخرى.
كذلك أثّرت هجرة العاملين في القطاع الطبي إلى الخارج بسبب الأزمة المالية، فأفقدت القطاع جزءاً من كفاءاته. وقد غادر لبنان في فترة قياسية أكثر من 20 بالمئة من الممرضين و40 بالمئة من الأطباء. وحالياً يجري العمل الحثيث على تطبيق العناية الفائقة على النظام الصحي وخلق الظروف المناسبة لاستعادة الكفاءات التي كانت تركت القطاع تباعاً والإستعانة بخبراتها لتطبيق خطة النهوض الموعودة.
تنشيط السياحة العلاجية
ينطلق التركيز على تنشيط السياحة العلاجية أو الصحية من المميزات التي يتمتع بها لبنان، حيث يجتمع المناخ الجيد والضيافة الحسنة والجهاز البشري والتقني المتفوّق والفنادق الفخمة… ولطالما عُرف القول بأن “روح لبنان الصحة”. فلبنان، بحسب خبراء القطاع، بإمكانه المنافسة في مجال السياحة الصحية، إلا أن المطلوب، تمهيداً لهذه المنافسة، التعريف به وتسويق خدماته والعمل دائماً على تطويرها، وتوفير النوعية الجيدة بالتكلفة الأقل.
وقد قام فريق مختص بمقارنة العديد من الدراسات بالإمكانات المتاحة في لبنان وأهمها: الموقع والبعد الجغرافي المميز. مقومات لبنان الطبيعية والمناخية والخدماتية. العلاقات المميزة بين لبنان والدول العربية الشقيقة وتسهيلات المرور. المميزات الطبية، من خبرات أكاديمية وكفاءات ذات مستوى عالمي. والمستشفيات العريقة بتاريخها وخبراتها وتجهيزاتها وتخصصاتها وجامعاتها.
لذلك فقد شددت الإستراتيجية الصحية على النقاط التالية:
-
- تعزيز حوكمة القطاع الصحي.
- وضع الرعاية الصحية الأولية كحجر أساس لتقديم خدمات أساسية عالية الجودة، خاصة للشريحة الأكثر هشاشة في المجتمع.
- الإستثمار في تعزيز نظم الصحة العامة والتأهب للطوارئ، من أجل توفير خدمات أساسية مثل المختبر المركزي ومركز عمليات الطوارئ الصحية.
- الإستجابة لنقص القوى العاملة.
- تسليط الضوء على التحول الرقمي كإجراء أساسي لتعزيز الشفافية والمساءلة، والمساهمة في استعادة الثقة في المؤسسات العامة.
لبنان يجب أن ينهض وسينهض ولن يتخلى عن دوره في هذا المضمار مهما علت الصعاب. وإذا كان القطاع العام منهكاً وشبه منحل ولا مال في الخزينة لدعم نهوض هكذا مجالات، فإن القطاع الخاص أخذ المبادرة على عاتقه وهو يعمل اليوم على ضخ رساميل جديدة لإعادة الجودة السابقة إلى القطاع الصحي واستعادة الريادة.
أما بعد فعلى جميع القطاعات المعنية أن تتكامل لتنشيط الوفادة طلباً للعلاج، ما يعيد بدوره ضخ الأرباح التي تدعم تطوير القطاع وتوسيعه.