الإستشفاء بمفهوم جديد!
الإستشفاء بمفهوم جديد!
من علاج المرض إلى العناية بالصحّة.. كيف تبني محيطاً ملائماً للمرضى؟
إن إعطاء الأولوية للمرضى هو أكثر من مجرد تغيير في طريقة التفكير، إنه تغيير في طريقة تصميم وبناء وتشغيل مرافق الرعاية الصحية. وهذا التغيير يتجاوز المجال السريري ليشمل العوامل الإجتماعية والثقافية أيضًا. وهذا الأمر أكثر ما يتجسّد في بيئة المستشفى التي تُعرَّف بأنها البيئة العلاجية الشافية التي لها تأثير في مجالي الرعاية والعلاج. وتشير الدراسات إلى أن بيئات المستشفى المصممة جيدًا يمكن أن تقلل من قلق المرضى وتوترهم، وتسريع الشفاء، وتقصير مدة الاستشفاء، وتقليل استخدام الأدوية، وتقليل الألم، وتعزيز الشعور بالرفاهية. أما على المستوى التنظيمي، فيمكن أن تساعد البيئات العلاجية في احتواء التكاليف من خلال تحسين نتائج المرضى، وتقليل مدة الإقامة، وتعزيز تعيين الموظفين، والرضا، والإنتاجية، والاحتفاظ بهم.
تُعَد التقنيات الرقمية حلاً هامًا لتوفير التسهيلات المقترحة للمرضى والموظفين في المستشفيات، وكذلك تحسين الأداء ورفع الكفاءة. ويمكن للمحاكاة، بما في ذلك محاكاة الواقع الافتراضي، أن توفِّر للمستخدمين النهائيين وموظفي التخطيط والتصميم في المستشفيات ومراكز العناية الطبية، رؤية واقعية للتصميم وللتعديل في مفاهيم تقديم الخدمة. واليوم باتت هذه الأدوات تُعد جزءًا من تحوِّل أكبر نحو رقمنة الرعاية الصحية، مما سيُمكِّن من اتخاذ القرارات المستندة إلى البيانات في كل من القضايا السريرية وغير السريرية.
مفهوم جديد تقوده التكنولوجيا
تستمر بيئات الرعاية الصحية في التطور، ويتسارع هذا التطوّر وتظهر الأفكار الحديثة تباعاً. لذلك، دفعت مواجهة تحديات أسواق الرعاية الصحية اليوم إلى إعادة النظر بالطريقة التي يتم بها تخطيط وتصميم وبناء وتشغيل المرافق الطبية حول العالم. وبحسب الدراسات الحديثة، تتضمن أدوات التصميم العلاجية عناصر محددة منها التعرّض للطبيعة مثل المناظر الخارجية والحدائق الداخلية أو الخارجية وأحواض الأسماك والفنون ذات الطابع الطبيعي، وسلسلة الحفلات الموسيقية الأسبوعية التي تُقام في حدائق المركز الطبي لإمتاع الموظفين والمرضى وروّاد المجمّع.
فتصميم منشأة رعاية صحية حديثة وتشغيلها يتطلب تعاون المخططين والمصممين وشركاء التكنولوجيا الطبية وموظفي المستشفى. فهؤلاء الشركاء مؤهلون بشكل فريد لتوجيه مؤسسات الرعاية الصحية خلال دورة حياة مرافق الرعاية الخاصة بهم مع استشاريين يتم تعزيز خبراتهم من خلال القيادة في ابتكار التكنولوجيا الطبية. وهم مؤهلون جيدًا بشكل خاص لتقديم منظور استراتيجي قائم على الحقائق ومعرفة تنفيذية عميقة. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تتّحد الأقسام السريرية حول مسارات الرعاية، من أجل تقديم أفضل جودة ممكنة من الرعاية والخبرة لجميع المعنيين.
الرعاية الصحية واتجاهات السوق
إن الرعاية القائمة على النوعية، التي تربط تقييمات الأداء من قبل المرضى لناحية الجودة الشاملة للرعاية التي يتلقونها، آخذة في الارتفاع في العديد من الأسواق الغربية. وتعتبر عوامل خبرة المريض من المحددات الرئيسية لجودة الرعاية في أنظمة الرعاية القائمة على القيمة. وهذا العامل يدخل بقوة في مستشفيات المستقبل لتحديد المفهوم الجديد للإستشفاء.
وفقًا لإيزابيل نييتو ألفاريز، مدير التسويق العالمي لتحسين تجربة المريض في شركة Siemens Healthineers، يجب تقسيم تجربة المريض إلى قسمين: أحدهما هو النتيجة السريرية التي يمكن قياسها بشكل مباشر، والآخر هو التجربة خلال الإقامة في المستشفى. وهو يعتبر أنّ من الممكن جدًا الحصول على نتيجة سريرية جيدة، في حين قد تكون التجربة سيئة. إذ “يخبرك الطبيب أن العلاج نجح، لكنّك ما زلت تشعر بالضعف، وغير راضٍ نفسيّاً. ولذلك لا تبلّغ عن تجربة إيجابية بشكل عام حتى لو شفيت”.
تتجلى النزعة الاستهلاكية في مجال الرعاية الصحية أيضًا في زيادة السفر للحصول على رعاية غير متوفّرة أو تكون أكثر تكلفة في موطن المريض. يمكن أن يوفّر هذا تدفقًا كبيرًا للإيرادات لمؤسسة الرعاية الصحية. لذلك يتطلّب جعلها مؤسسة جذابة وتنافسية في هذا السوق، والتفاني في تقديم تجربة إيجابية ومناسبة ثقافيًا لكل من المرضى ورفاقهم في السفر.
مرافق الرعاية واحتياجات المرضى
تتمثل مهمة المتخصصين في تخطيط وتصميم مرافق الرعاية الصحية في خلق بيئة علاجية تعمل على تحسين تجربة كل مريض، مع دعم فريق الرعاية أيضًا. لتحقيق هذه المهمة، يتطلب التخطيط الفعّال لمنشآت الرعاية الصحية شراكة قوية وديناميكية بين المرضى والأطباء والمهندسين المعماريين وشركات التكنولوجيا الطبية والاستشاريين، من أجل إنشاء منشأة ترقى إلى مستوى تحديات اليوم والغد.
فالتصميم الذي يركز على المريض هو خروج عن مبادئ التصميم التي هيمنت على بناء المستشفيات منذ منتصف القرن العشرين فصاعدًا. في ذلك الوقت، تحكّمت كفاءة البناء والتدفئة والتبريد وسير عمل الأطباء، بالمساحات التي غالبًا ما بدت جامدة و”إكلينيكية”. من هنا انطلق التفكير بأن تكون هذه المساحات أكثر تلبية لاحتياجات المرضى وأكثر ترجمة للمفاهيم الحديثة في الطب. لذلك، فقد عمدت القطاعات الطبية حول العالم إلى إعادة تقييم هذا التركيز على مقاييس الكفاءة المحدّدة بدقة في العقد أو العقدين الماضيين، حيث ظهر دليل جوهري على أهمية عوامل تجربة المريض في عملية الشفاء.
فالتصميم الصحيح للغرفة والأجهزة الطبية يلعب دورًا مهمًا في التأثير على التجربة العاطفية للمريض. فقبل الفحص غالباً ما تتأرجح مشاعر المرضى بين انعدام الأمن والقلق والأمل. وبعد إقامتهم في بيئة علاجية وتصميمات حديثة موجهة نحو هذه المواقف العاطفية الإنفعالية، يتبيّن أن وضعهم النفسي بات أكثر استقراراً، بل إن هناك إضفاءً للفرح وإحساساً بالأمان.
التركيز على الصحة لا على المرض
إن تخفيف الضغط البيئي الذي يعاني منه المريض هو جزء من تجربة الشفاء. والهدف هو جعل المستشفى موجهًا نحو الصحة وليس المرض، للمرضى والموظفين والمجتمعات التي يخدمونها. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن التصميم الحيوي يمكن أن يساعد في تسريع التعافي وتقليل استخدام المسكّنات وتقليل التوتر. وهذا الوضع، في عصر الرعاية القائمة على القيمة، يمكن أن تكون له تداعيات كبيرة. فدافعو الأموال في المستشفى يحفّزون بشكل مباشر لاعتماد التدابير الإيجابية لتجربة المريض، ولكن حتى في حال عدم وجود رابط مالي مباشر، فإن السمعة المتمثلة في تجربة المريض الرائعة تعد ميزة تنافسية. وبالتالي، فإن تحسين تجربة المريض يصب في مصلحة أي مؤسسة رعاية صحية.
ومن الواضح أن تصميم المستشفى الذي يُسهِّل التواصل الفعال بين الموظفين، والتعاون الصحي بين الأقسام، والاتصالات الخاصة المحترمة بين الموظفين والمرضى تؤتي ثمارها، فيتمتع المرضى بنتائج صحية أفضل. وهنا يأتي دور أدوات المحاكاة ثلاثية الأبعاد ورباعية الأبعاد. إذ يمكن لهذه الأدوات الرقمية إنشاء تخطيط نموذج أولي لمنشأة جديدة بسرعة. بالإضافة إلى ذلك، تساعد إمكانات الواقع الافتراضي المستخدمين النهائيين للمنشأة على تجربة ما يشبه التواجد على الأرض وتعديل تصميم المساحة لتلبية احتياجاتهم بطريقة أكثر قوة ومباشرة مما تسمح به الرسومات المعمارية. فإنشاء “توأم رقمي” عالي الدقة لمنشأة تقديم الرعاية الصحية يتيح اختبار التغييرات في العمليات و/ أو التخطيط من دون إعادة ترتيب مكلفة للمساحة المادية الفعلية. وتساعد الأدوات الرقمية لمحاكاة سير العمل أيضًا مسؤولي المستشفيات على إنشاء بيئة تعمل على تحسين الكفاءة بالإضافة إلى رضا المرضى والموظفين.
العناية الحديثة والأبعاد الأربعة للشفاء
تُعزى حوالى 15 إلى 20 في المائة فقط من النتائج المتعلقة بالصحة إلى التدخلات الطبية. تتعلق البقية بالسلوكيات الصحية المختلفة، حيث تُشكِّل المكونات الاجتماعية والسلوكية والبيئية والروحية الأبعاد الأربعة للشفاء. من هنا بدأ القطاع الطبي عموما اعتماد مفاهيم جديدة في التعامل مع المرضى تشتمل على العديد من العناصر التي تبدأ بكيفية استقبال المريض ولا تنتهي بتصميم المستشفى ومحيطه.
1. فهناك مثلاً البعد المتصل بالعقل والروح الذي يتناول أهداف الشخص للشفاء – رغباته ومعتقداته واحتياجاته. تساعد الأسئلة التالية الأشخاص في الكشف عما يجدونه مفيدًا، وما الذي يحفزهم، وما الذي يمنحهم شعورًا بالرفاهية. بمعنى آخر: “ما الذي يهم؟” مقابل “ما الأمر؟” لماذا تطلب الشفاء؟ ماذا تريد أن يحدث من خلال الرعاية الصحية؟ ما هي خططك وتطلعاتك في الحياة؟
2. وهناك الدعم الاجتماعي وهو مفيد أو شافٍ. يتشابك الشفاء والمرض مع العلاقات الشخصية وشبكات الدعم الاجتماعي، بما في ذلك العائلة والأصدقاء والزملاء. من خلال هذه الأسئلة، يمكن لأي شخص المساعدة في التقاط المكونات الشخصية لحياته اليومية. مثل كيف هو دعمك الاجتماعي؟ هل لديك عائلة وأصدقاء يمكنك أن تناقش معهم أحداث حياتك ومشاعرك؟ هل يمكنك الاتصال بشخص ما بشكل مريح غدًا إذا كنت بحاجة إلى مساعدته؟
3. فقد بيّنت الدراسات أنّ السلوك ونمط الحياة يمكن أن يؤثرا على ما يصل إلى 70 بالمائة من الأمراض المزمنة. لذلك، فإن السلوكيات الصحية ضرورية لتوفير الصحة. لكن يجب أن يكون تغيير السلوك مرتبطًا بما هو ذو مغزى بالنسبة للفرد. توفِّر هذه الأسئلة لمحة سريعة عن نمط حياة الشخص والتي، عندما تقترن بالحافز، توفر طريقًا إلى الأمام من أجل التغيير.
4. أما سلامة البيئة المادية للفرد وأمنها فيلعبان دورًا أكبر في الصحة مما يدركه الكثير منا. على سبيل المثال، قد يمنع الحي غير الآمن شخصًا من المشي. كما يمكن أن يؤدي مبنى سكني صاخب على طول طريق مزدحم إلى تفاقم الربو وأمراض الرئة الأخرى، فضلاً عن الإجهاد وقلة النوم.
مستشفى المستقبل: مشروع متكامل
حتى وقت قريب، كانت شركة معمارية تصمِّم المساحة المادية، وبعد ذلك يقوم بائعو التكنولوجيا الطبية بتزويد المعدات اللازمة لتشغيل المنشأة. لقد أدى تسارع وتيرة التطور في التقنيات الطبية وغيرها من التقنيات، إلى جعل هذا النموذج يعفو عليه الزمن. ما نحتاجه اليوم هو التنسيق الوثيق بين المهندسين المعماريين وشركاء التكنولوجيا الطبية والمستخدمين والمسؤولين الطبّيين والإداريين.
يمكن أن يكون تصميم ناجح أعده أفضل المهندسين المعماريين أمرا جيدا للغاية. لكن العمل مع الأشخاص الذين سيستخدمون هذا المرفق، ومع شركاء التكنولوجيا والجوانب السريرية للرعاية الصحية الحديثة، بات أمرا مختلفا وذا ميزة كبيرة. يقول الخبراء: “يجب أن يكون الموظفون سعداء من أجل أداء وظائفهم بشكل جيد. كما يجب أن يكون المرضى راضين عمّا يتلقونه من رعاية طبية”.
بات الابتكار والعمل الجماعي أمرًا أساسيًا اليوم في تخطيط وتصميم المرافق. وقد بات منح الفرق الاستشارية لشركات الضيافة ومعدات التكنولوجيا الطبية ومصممي الحدائق وعلماء النفس الصحي وغيرهم.. مقاعد إلى الطاولة خلال المراحل الأولى من التخطيط لمشروع طبي، يضمن أن خبرتهم تقدم أكبر فائدة للمرضى والموظفين الذين سيستخدمون مرفقًا جديدًا للرعاية الصحية… العالم يتطوّر؟ والطب أيضا، وبمفاهيم رائعة في شتّى المجالات.