الإستثمار في مستقبل الصّحة
الإستثمار في مستقبل الصّحة
كيف غيّر التحوّل الرقمي مفهوم الإستشفاء؟
نما الإتجاه الجديد في تكنولوجيا الرعاية الصحية بعد قواعد العمل المتبدّلة التي فرضها التعامل مع جائحة كورونا، ومن المرجح أن يستمر في العام 2022 والأعوام المقبلة. وقد أثبتت الحلول الرقمية أهميتها في العام 2020. ووصلت قيمة سوق إنترنت الأشياء العالمي إلى 50.5 مليار دولار. ومن المتوقع أن تنمو إلى 254.2 مليار دولار في العام 2026. فالاستثمارات في إنترنت الأشياء والحلول الرقمية الأخرى في مجال الرعاية الصحية، آخذة في الارتفاع بالفعل، حيث سُجِّلت في العام 2021 اتجاهات تقنية بارزة في مجال الإستشفاء، بالإضافة إلى اعتماد تقنيات جديدة. ولحل مشكلة النقص في الطاقم الطبي والتمريضي بعد ضغط جائحة كورونا، تم اللجوء إلى الإستعانة بالتكنولوجيا أو بخدمات عند الطلب. وهذه الخدمات بدأت تشكل قطاعاً قائماً بذاته في العالم اليوم. فكيف استفاد القطاع الصحي من هذه التحوّلات؟
يقول الباحثون الطبيّون “لن يكون هناك عام آخر من شأنه أن يغيِّر الرعاية الصحية مثلما حدث في العامين 2020 و2021، حيث دفع الوباء العالمي القطاع الصحي للتكيّف والابتكار، محدِّداً أيضاً كيف ستتغير الرعاية الصحية في السنوات العشر المقبلة. هذا التحوّل لا يعني في أي حال أن الصناعة قد انتقلت بشكل كبير من المسار الذي كانت عليه، حيث كان للتقنيات الرقمية تأثير بالفعل على الرعاية الصحية. لكن الاستثمار في التغيير لم يكن سريعاً إلى هذا الحد المسجّل حالياً والمنتظر مستقبلاً”.
وفي متابعة لتطورات القطاع الصحي عموما يتبيّن أن أنظمة الرعاية الصحية التي رزحت تحت ضغط كورونا، اعتمدت بشكل كبير على التكنولوجيا لتصبح أكثر كفاءة وملاءمة للتعامل مع الوضع المستجد. وهذا يعني تبسيط رعاية المرضى الداخليين، والاعتماد على تقنيات التطبيب عن بعد، واستخدام تحليلات البيانات الضخمة لاتخاذ القرارات، وحتى قبول مخاطر تدابير الأمن السيبراني الضعيفة.
إستنادا إلى كل هذا الواقع وتطوراته، كيف أصبحت فرق تكنولوجيا المعلومات جزءًا لا يتجزأ من عمليات المستشفيات؟ وإلى أي مدى سيغيّر هذا التحوّل مستقبل الطب في العالم؟ فشركات تكنولوجيا المعلومات قطعت شوطاً بعيداً في تطوير الأمن السيبراني وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وابتكار المزيد من الحلول. وتعكس اتجاهات سوق تكنولوجيا الرعاية الصحية والحاجة الملحة للحلول الرقمية المتقدمة، زيادة كبيرة في الاستثمار على هذا الصعيد. وتبين مؤخرًا أن تمويل الرعاية الصحية العالمي حقّق رقمًا قياسيًا في العام 2020، ويتجه لتحقيق رقم موازٍ أو أعلى مع نهاية العام 2021. ففي العام الماضي، كان هناك أكثر من 5500 صفقة بلغت قيمتها الإجمالية 80.6 مليار دولار أميركي كتمويل من الأسهم. ووصل تمويل شركات الصحة الرقمية إلى 26.5 مليار دولار في عام 2020، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق. وكانت الرعاية الصحية المستندة على التكنولوجيا، الأكثر تمويلًا في العام 2020. ويرى خبراء قطاع الصحة، أنّ تكنولوجيا الرعاية الصحية يمكن أن تحقِّق قيمة كبيرة وتؤثر بشكل بارز على اتجاهات الصحة الرقمية في المستقبل.
التوظيف في الرعاية الصحية
كشفت جائحة COVID-19 عن عدد من الثغرات التشغيلية في نظام الرعاية الصحية العالمي، كأن بدا مثلاً أنّ بعض فرق العمل يجب أن تكون أوسع أو أضيق، أو أن تعمل بطريقة مختلفة لتحقيق كفاءة أكبر ونتائج أفضل لناحية التعاطي مع الأزمات. ومع وجود هذه الثغرات في أنحاء عديدة حول العالم، ستمتد قضايا التوظيف إلى ما هو أبعد من الوباء. وتُقدِّر منظمة الصحة العالمية أنه سيكون هناك نقص بحوالى 9.9 ملايين عامل رعاية صحية على مستوى العالم بحلول العام 2030. فعلى سبيل المثال، ستحتاج الولايات المتحدة إلى توظيف 2.3 مليوني عامل رعاية صحية جديد بحلول العام 2025، لرعاية كبار السن من الأميركيين، وفقًا لتقرير أعدته شركة Mercer الاستشارية العالمية لموظفي الرعاية الصحية.
وفي ظل هذه الظروف، ليس من المستغرب أن تظل إعلانات وظائف الرعاية الصحية مفتوحة لأشهر أو حتى لسنوات. وهذا ينطبق بشكل خاص على المناطق الريفية، حتى في أميركا الشمالية وأوروبا حيث مرافق الرعاية الصحية لم تتمكن من العثور على عدد كافٍ من الأطباء والممرضات لتلبية متطلبات الأزمة. لذلك فقد أصبح مفهوم التمريض على القطعة أو عند الحاجة بدوام جزئي أو بدون دوام، أكثر شيوعًا مع عدم توفّر عدد كافٍ من العاملين في القطاع الطبي.
وعلى سبيل المثال يعد تطبيق GapNurse حلًّا تقنيًّا ناجحًا لمثل هذه المشاكل، وهو عبارة عن منصة توظيف على شبكة الإنترنت لمقدمي الرعاية الصحية. ونظراً لنجاحها وأهميتها تم تطويرها وباتت تربط بسلاسة بين الممرضات المحترفات المستقلات ومساعدي الممرضات مع مرافق الرعاية الصحية التي تتطلع إلى ملء المهام قصيرة الأمد والدائمة.
ويتكون فريق القيادة لدى هؤلاء، من مشغلين ومالكين لمؤسسات الرعاية المنزلية ودور العجزة والتمريض الماهر ومرافق المعيشة المساعدة، مع خبرة واسعة إضافية في تخطيط وعلاج وإدارة الرعاية المزمنة والحادة وما بعد الحادة. يتم امتحان خلفية الممرضات قبل التعاقد معهن للمشاركة في هذه المهمات.
لذلك يمكن للمرافق أن تطمئن إلى أنها تتلقى أفضل مقدمي الرعاية من حيث الجودة. وبمجرد تخطيها امتحان الخبرة، تختار الممرضات المهام التي تناسب جدولهن الزمني ومستوى راحتهن كممرضات. وتعمل مثل هذه البرامج على تعزيز خفض تكاليف رعاية المرضى وزيادة الأجر في نفس اليوم وإمكانية الوصول إلى أدوات التعلم عبر الإنترنت والتعليم المستمر.
الاقتصاد حسب الطلب
الأمر الآخر الذي فرضته جائحة كورونا وتَطوُّر مسار العناية الطبية، هو ما بات يُعرف بالإقتصاد حسب الطلب فما علاقة ذلك باتجاهات الرعاية الصحية ومستقبلها؟
أنشأت شركات التكنولوجيا “الإقتصاد حسب الطلب” لتلبية طلب المستهلك على السلع والخدمات. ومن الواضح أن نموذج العمل هذا تنامى مدفوعاً بالتطورات الحاصلة في مجال الاتصال وزيادة التركيز على الأجهزة الشخصية. يُشار إليه أيضًا باسم “اقتصاد الوصول” أو “الاقتصاد المشترك”.
وقد أدى هذا التحوّل إلى تغيير النظرة إلى الصناعة الطبية والإستشفائية بالمطلق، خصوصًا إلى ما سيكون عليه هذا التطوُّر في المستقبل غير البعيد، سواء لناحية خلق وظائف جديدة، أو لاعتماد أساليب أعلى كفاءة وأقل تكلفة على المريض والمستشفى. فعلى سبيل المثال تم إنشاء قوة عاملة مستقلة، واجهت نقص المواهب في العديد من الخدمات حسب الطلب. وبات يُنظر إلى التوظيف على أنه خدمة عند الطلب أكثر مما هو توظيف تقليدي دائم. وقد أتاح ذلك للعمال ذوي المهارات العالية بديلاً عن العمل بدوام كامل. وهذا ما ساعد على نمو قطاعي الإستشفاء والإستثمار معاً. ففي أميركا الشمالية وأوروبا بات هناك ما يفوق الـ 150 مليون “متعاقد مستقل” كما في العام 2020. وتبيّن أن 81 بالمئة من الأميركيين يرغبون في تحويل “العمل الجانبي” أو “الجزئي” إلى مهنة. وهناك أكثر من 50 بالمئة ممن شملهم الاستطلاع عملوا لحسابهم الخاص لكسب أموال إضافية. واليوم يلاحظ انتشار هذه الظاهرة في عالم الإستشفاء، وتحقيقها نتائج إيجابية شجّعت على المضي بها إلى مزيد من التوسّع.
فالحلول الرقمية مثل Wendy ومقرها الولايات المتحدة، تبدو عملية ومفيدة لقطاع الرعاية الصحية. وهذه الخدمة الرقمية الخاصة تعمل عند الطلب على توصيل مقدمي الرعاية لكبار السن بنقرة زر واحدة. وهناك خدمات أخرى مماثلة أدخلت نمطاً جديداً من العمل إلى قطاع الصحة والإستشفاء. وينتظر المراقبون أن يلقى هذا التطور المزيد من الدعم والإعتماد.
ومن الثابت أن الطب عن بعد سيمثل أبسط أشكال الخدمة عند الطلب في قائمة اتجاهات تكنولوجيا الرعاية الصحية. وفي حين كان يبدو هذا الأمر خيارًا جيدًا في السابق، إلا أنه منذ العام 2020 أصبح أمرًا ضروريًا. ففي الأيام الأولى للقيود الوبائية، كان على المرضى الذين يعانون من مشاكل صحية مزمنة – السكري وارتفاع ضغط الدم وارتفاع الكوليسترول وما إلى ذلك – الابتعاد عن المستشفيات. وقد أدى هذا الواقع إلى تأخير الرعاية التي يحتاجون إليها، والرعاية التي كان من الممكن توفيرها من خلال اعتماد التطبيب عن بعد والأجهزة الطبية المتصلة.
وتقول الوكالة الأوروبية للسلامة والصحة في العمل، إن معظم المنصات على الإنترنت قد استخدمت استراتيجية “النمو أولاً وطرح الأسئلة المتعلقة بالامتثال لاحقًا”. وترتبط الاتجاهات الرئيسية لتكنولوجيا الرعاية الصحية ارتباطًا واضحًا برقمنة البيانات واستخدامها. وهذه أمثلة عن الاتجاهات التكنولوجية في الرعاية الصحية التي من المحتمل أن نراها في الأعوام القليلة المقبلة.
حماية النجاح وتطويره
مع هذا التطوّر، تبقى مسألة الأمن الإلكتروني لحماية هذه التطبيقات وضمان فعاليتها وتواصل خدماتها. فمثلا أبلغت كل من Pfizer وBioNTech ووكالة الأدوية الأوروبية عن هجمات استهدفت بيانات اللقاح. ووقع عدد غير قليل من المستشفيات في الولايات المتحدة وأوروبا ضحية للخرق الإلكتروني، مما دفع قطاع الرعاية الصحية إلى أن يصبح أكثر وعياً بالبنية التحتية للأمن السيبراني.
من جهتها وجدت شركة كاربون بلاك للأمن السيبراني، أن هناك 239.4 مليون محاولة هجوم ضد عملاء الرعاية الصحية في العام 2020. وسجّل تقريرها حول أمن الرعاية الصحية “متوسط 816 محاولة هجوم لكل نقطة نهاية في العام 2020، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 9،851 بالمئة عن العام 2019.” لذلك فمن الواضح أن الأمن السيبراني وحماية البيانات ربما يكونان الأكثر رصدًا من بين جميع اتجاهات تكنولوجيا المعلومات للرعاية الصحية الناشئة في العام 2021.
وقد أكدت الاختراقات والهجمات المتعددة على الحاجة إلى الاستثمار في هذا القطاع. ومن الطبيعي أن يحتاج الدفع نحو صناعة رعاية صحية رقمية، أكثر إلى بنية تحتية أمنية لحمايتها. وهذا يعني أنه من المرجح أن تشهد شركات الأمن السيبراني زيادة في عملاء الرعاية الصحية في العام 2021. ومن المحتمل أن تكون البيانات الضخمة في مجال الرعاية الصحية هي الأهم في اتجاهات التكنولوجيا الطبية الكلية في هذا العام.
فالأجهزة التي تشكل جزءًا من إنترنت الأشياء الطبية ستحل على الأقل بعض المشكلات التي كان على قطاع الرعاية الصحية التعامل معها في العام 2020. ويمكن لإنترنت الأشياء أن يوفر المال أيضًا لصناعة الرعاية الصحية. وقدّر تقرير بنك غولدمان ساكس أن إنترنت الأشياء للرعاية الصحية يمكن أن يوفر 300 مليار دولار من خلال طرق أفضل لممارسة الطب.
على سبيل المثال، يمكن للرعاية الصحية لإنترنت الأشياء أن تزيد من الكفاءة التشغيلية، كما هو الحال في جميع الصناعات الرقمية، ويمكن تحسين سير العمل وأتمتته. وكل هذا يعد بمستقبل أكثر إشراقاً لمرضى أكثر أماناً ورعاية أقل تكلفة.