مقابلات

ديانا أبو الجود

استراتيجيات فعّالة لإدارة التوتر وتعزيز الصحة النفسية

ديانا أبو الجود، المعالِجة النفسية في مركز كليمنصو الطبي في بيروت

إدارة التوتر اليومي والحفاظ على الصحة النفسية أصبحا من أهم التحديات في العصر الحالي. فمع ضغوطات الحياة المتزايدة، يبحث الكثيرون عن استراتيجيات فعالة للتعامل مع هذه التحديات والوقاية من آثارها السلبية. في هذا السياق، التقت مجلةالمستشفى العربيديانا أبو الجود، المعالِجة النفسية في مركز كليمنصو الطبي في بيروت، لمناقشة كيفية تعزيز المرونة النفسية ومقاومة التوتر، مستكشفين دور نمط الحياة الصحي الذي يشمل التغذية السليمة، ممارسة الرياضة، وتجنّب العادات الضارة.

كيف يمكن أن يؤثر التوتر المزمن على أداء الدماغ والوظائف الإدراكية؟

التوتر المزمن يؤثر بشكل مباشر على الدماغ، خاصة على منطقة الحُصين (hippocampus) المسؤولة عن الذاكرة، ما يؤدي إلى ضعف التركيز والتذكر واتخاذ القرار. أظهرت دراسة أن ارتفاع الكورتيزول الناتج عن التوتر المزمن يرتبط بانكماش الحُصين وتراجع القدرات المعرفية. كما يتأثر نشاط القشرة الجبهية الأمامية (prefrontal cortex)، ما ينعكس سلبًا على التفكير والتنظيم الانفعالي. لهذا، فإن إدارة التوتر ليست رفاهية بل ضرورة للحفاظ على الأداء العقلي.

ما العلاقة بين التوتر والإجهاد وظهور أو تفاقم اضطرابات نفسية شائعة مثل الاكتئاب والقلق؟

عندما يرتفع مستوى التوتر، ينخفض المزاج بشكل ملحوظ؛ العلاقة بينهما متبادلة ومترابطة، فكلما زاد الضغط النفسي، زادت صعوبة التحكم في المشاعر ما يؤدي إلى مشاعر الحزن أو القلق أو الانفعال. وفي المقابل، المزاج السيء يجعل الشخص أكثر حساسية للتوتر وأقل قدرة على التكيف معه، ما يُدخل الفرد في حلقة مفرغة تؤثر سلبًا على صحته النفسية.

هل يمكن أن يؤدي التوتر الشديد إلى اضطرابات نفسية أكثر خطورة مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) أو الاضطرابات الذهانية لدى بعض الأفراد؟

نعم ولا. نعم، التوتر الشديد الناتج عن حدث صادم قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية خطيرة مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، ولكن لا، ليس كل توتر شديد يؤدي تلقائيًا إلى هذه الاضطرابات.

اضطراب ما بعد الصدمة لا يُشخَّص مباشرة بعد التعرض للحدث الصادم، بل يُشخَّص فقط إذا استمرت الأعراض لأكثر من شهر. في الفترة الأولى، تُعتبر الأعراض ضمن ما يُعرف بـاضطراب الضغط الحاد (Acute Stress Disorder)“ إذا استمرّت الأعراض لأكثر من أربعة أسابيع، وسبّبت خللاً في الأداء اليومي، يمكن عندها لأخصائي نفسي تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة.

أما الاضطرابات الذهانية، فهي لا تنتج مباشرة عن التوتر، لكنها قد تظهر عند أشخاص لديهم قابلية بيولوجية أو تاريخ نفسي، خاصة إذا اجتمع التوتر الشديد مع قلة النوم، أو تعاطي مواد ما، أو غياب الدعم النفسي.

ما هي الآليات البيولوجية أو الكيميائية العصبية التي يتبعها التوتر ليؤثر على الصحة النفسية (مثل تأثيره على الهرمونات كالكورتيزول والنواقل العصبية)؟

عند التعرّض للتوتر، يفرز الجسم كميات كبيرة من هرمون الكورتيزول، فيؤثر على مناطق في الدماغ مثل الحُصين والقشرة الجبهية الأمامية، ويؤدي إلى ضعف في الذاكرة وتنظيم المشاعر. كما يسبب التوتر خللاً في النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين، وهي مواد كيميائية مسؤولة عن المزاج والطاقة، مما يزيد من خطر الاكتئاب والقلق.

كيف يتم تشخيص أن المشاكل النفسية التي يعاني منها الفرد ناتجة بشكل أساسي عن التوتر والإجهاد؟ هل توجد اختبارات أو مقاييس معينة يمكن استخدامها لتقييم مستوى الإجهاد النفسي لدى الشخص؟

تشخيص أن المشاكل النفسية ناتجة عن التوتر يتم من خلال تقييم سريري شامل يقوم به أخصائي نفسي. خلال هذا التقييم. يتم التحقق من طبيعة الأعراض، مدّتها، والسياق الذي ظهرت فيه.

كما يمكن استخدام أدوات واختبارات نفسية مخصصة لقياس مستوى التوتر، لكن لا تُجرى بشكل عشوائي، بل يُشرف عليها مختص ويقوم بتحليل نتائجها ضمن سياق الحالة العامة للفرد.

لكن من المهم التأكيد أن هذه الأدوات تُستخدم كمساعدة في التقييم، ولا يمكن الاعتماد عليها وحدها من دون فحص سريري متخصص، لأن التوتر قد يتداخل مع حالات نفسية أخرى، ويحتاج التمييز بينها إلى خبرة مهنية.

ما هي الاستراتيجيات الفعّالة التي يمكن للأفراد اتباعها لإدارة التوتر اليومي والوقاية من آثاره السلبية على الصحة النفسية؟ ما هو دور نمط الحياة الصحي (مثل التغذية، الرياضة، والابتعاد عن العادات السيئة) في تعزيز المرونة النفسية ومقاومة التوتر؟

لإدارة التوتر اليومي، من المهم استخدام أدوات فعّالة مثل التنفس العميق الواعي، الحركة المنتظمة، والتواصل مع أشخاص نشعر معهم بالأمان. هذه الاستراتيجيات تُخفّف من التوتر وتسهم كذلك تعزيز المرونة النفسية. لكن عندما يكون التوتر مرتبطًا بجذور أعمق أو بتجارب سابقة، فإن العلاج النفسي، خصوصًا العلاج المعرفي السلوكي، يُساعد على فهم هذه الجذور والعمل عليها، ما يُحدث تغييرًا حقيقيًا في طريقة التعامل مع الضغوط.

في الواقع، لا تقتصر أهمية نمط الحياة الصحي على تحسين الصحة الجسدية فحسب، بل تمتد لتلعب دوراً حاسماً في الحد من التوتر وتعزيز الصحة النفسية. فالحصول على قسط كافٍ من النوم الجيد، وممارسة تقنيات الاسترخاء كالتأمل أو اليوجا، بالإضافة إلى تنظيم الوقت وتحديد الحدود الشخصية، كلها عوامل تُسهم في تهدئة الجهاز العصبي وتقليل الشعور بالإرهاق.

وتُعتبر الرياضة المنتظمة أداة طبيعية فعّالة جدًا في التخفيف من التوتر والقلق. فهي تحفز إفراز الإندورفينات التي تحسن المزاج، وتساهم في تحسين جودة النوم، وتقلل مستويات هرمونات التوتر مثل الكورتيزول. كما توفر الرياضة فرصة لتشتيت الانتباه عن الأفكار المزعجة، وتعزز الثقة بالنفس من خلال تحقيق الأهداف، وتساهم في بناء المرونة النفسية لمواجهة ضغوط الحياة.

كما يلعب الغذاء الصحي دورًا حيويًا في إدارة التوتر وتحسين المزاج. تبدأ هذه الأهمية بوجبة الفطور، التي تعد نقطة انطلاق أساسية ليوم مستقر، حيث تساهم في تثبيت مستويات السكر في الدم وتجنب التقلبات المزاجية الناتجة عن انخفاضها.

هل هناك تقنيات معينة مثل التأمل أو اليوجا يمكن أن تساعد في تقليل تأثير التوتر على الدماغ والصحة النفسية؟

نعم، تقنيات مثل التأمل الواعي واليوجا تُساعد بشكل فعّال على تقليل تأثير التوتر على الدماغ والصحة النفسية. التأمل الواعي يُساعد الشخص على التركيز في اللحظة الحاضرة بدلًا من الانشغال بالأفكار المقلقة، ما يُخفّف من نشاط مناطق الدماغ المرتبطة بالخوف والتوتر، مثل اللوزة الدماغية (amygdala)، ويُعزّز من عمل القشرة الجبهية الأمامية (prefrontal cortex) المسؤولة عن التنظيم والانتباه. أما اليوجا، فهي تجمع بين الحركة والتنفس الواعي، وتُخفّض من مستوى الكورتيزول، وتُحسّن المزاج والنوم.

ما هي نصيحتك الأخيرة للأفراد الذين يشعرون بأن التوتر يسيطر على حياتهم ويؤثر سلبًا على صحتهم النفسية؟

في لحظات الانهاك، من المفيد التوقّف قليلًا وتغيير زاوية النظر. عوضًا عن سؤالمما أشكو؟ ولماذا أشعر هكذا؟، يُمكن طرح سؤال أكثر رحمة: “أنا ماذا أريد الآن؟”. فخلف كل توتر توجد رسالة، وكل ألم يحمل نداءً للعناية، لا للعقاب. عندما يشعر الإنسان أن التوتر يُسيطر على يومه ويُثقل تفكيره، فهذا لا يعني أنه ضعيف، بل يدلّ على أنه حاول التماسك لفترة طويلة أكثر مما يحتمل. التوتر لا يُعرّف الإنسان، ولا يُلخّص حكايته، بل هو فصل مؤقت في كتابٍ أطول.

واحدة من الحيل القاسية التي يلعبها التوتر هي جعله يبدو دائمًا، كأن لا مخرج منه، وكأن الشخص عالق فيه إلى الأبد. لكن الحقيقة أننا نملك أكثر مما نعتقد. العقل والجسد، مهما بدا عليهما التعب، هما في النهاية تحت سيطرتنا. والأيام الصعبة لا تدوم، لأن الإنسان بطبيعته كائن في حالة تغيّر ونموّ مستمر. لكن في بعض الأحيان، هذا التحوّل يحتاج دفعة، لمسة صغيرة تُعيد التوازن. وغالبًا ما تأتي تلك الدفعة من معالج نفسي لطيف، يعرف كيف يُضيء الزاوية التي أُطفئت بداخلك، ويُرافقك حتى تعود لنفسك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى