السمنة وتداعياتها… بين المخاطر والحلول المعتمدة
السمنة وتداعياتها… بين المخاطر والحلول المعتمدة
تشير التقديرات الحديثة إلى ارتفاع كبير في أعداد البالغين الذين يعانون من زيادة الوزن والسمنة على مستوى العالم. ففي عام 2022، بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، وصل عدد الأشخاص الذين يعيشون مع السمنة إلى أكثر من مليار شخص، وهو ما يتجاوز ضعف العدد المسجل في عام 1990. تحذّر التوقعات العالمية، المستندة إلى تحليل نُشر في مجلة “ذا لانسيت”، من مستقبل مقلق يلوح في الأفق. فإذا استمرت الاتجاهات الحالية ولم تُتخذ إجراءات عاجلة، من المتوقع أن يعاني أكثر من نصف البالغين وثلث الأطفال والمراهقين من زيادة الوزن أو السمنة بحلول عام 2050. هذه الأرقام تُشكل دعوة ملحة للتحرك لوقف هذا الارتفاع المتسارع في معدلات السمنة عالميًا.
يكشف “أطلس السمنة العالمي 2025” عن فجوة مقلقة في الاستجابة العالمية لتحدي السمنة المتزايد. ففي عام 2025، يُظهر التقرير أن ثلثي دول العالم تفتقر إلى سياسات صحية عامة كافية لمكافحة السمنة، حيث لا تطبق سوى واحدة أو لا شيء من التدابير السياسية الرئيسية المتعلقة بمكافحة السمنة. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن 7% فقط من الدول تعتبر أن أنظمتها الصحية جاهزة بالكامل للاستجابة بفعالية لانتشار السمنة. هذا النقص الحاد في الاستعداد على مستوى السياسات والأنظمة الصحية يُنذر بتداعيات وخيمة على الصحة العامة إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لسد هذه الفجوة.
أبرز المخاطر الصحية المرتبطة بالسمنة
تُشكل السمنة، سواء لدى البالغين أو الأطفال، خطرًا صحيًا كبيرًا يُهدد جودة الحياة ويُزيد من احتمالية الإصابة بالعديد من الأمراض المزمنة والخطيرة. وتُعد سمنة الأطفال على وجه الخصوص مصدر قلق متزايد، لأنها غالبًا ما تستمر حتى مرحلة البلوغ، وتُمهد الطريق لظهور هذه الأمراض في سن مبكرة.
الأمراض الأيضية
- داء السكري من النوع الثاني: تُعدّ السمنة السبب الرئيسي لداء السكري من النوع الثاني، حيث تُسبب مقاومة الأنسولين، مما يجعل الجسم غير قادر على استخدام الأنسولين بفعالية لخفض مستويات السكر في الدم. هذا الخطر يظهر مبكرًا لدى الأطفال والمراهقين المصابين بالسمنة.
- ارتفاع الكوليسترول والدهون الثلاثية: تؤدي السمنة إلى ارتفاع مستويات الكوليسترول الضار (LDL) والدهون الثلاثية، وانخفاض الكوليسترول الجيد (HDL). هذه التغيرات تزيد من خطر تراكم اللويحات الدهنية في الشرايين.
- ارتفاع ضغط الدم: يُعدّ ارتفاع ضغط الدم من المضاعفات الشائعة للسمنة، مما يُزيد من العبء على القلب والأوعية الدموية.
أمراض القلب والأوعية الدموية
تُشكل السمنة عامل خطر رئيسي لأمراض القلب التاجية والسكتات الدماغية، وذلك نتيجة لتراكم اللويحات في الشرايين (تصلب الشرايين) وارتفاع ضغط الدم ومستويات الكوليسترول غير الصحية. الأطفال المصابون بالسمنة قد تظهر لديهم علامات مبكرة لتصلب الشرايين.
أمراض الجهاز الهضمي والكبد
- الكبد الدهني غير الكحولي (NAFLD/MASLD): تُعدّ السمنة السبب الرئيسي لتراكم الدهون في الكبد، مما قد يتطور إلى التهاب الكبد الدهني (NASH/MASH) الذي يمكن أن يؤدي إلى تليف الكبد والفشل الكبدي.
- حصوات المرارة: تزيد السمنة من خطر تكون حصوات المرارة.
- الارتجاع المريئي: تزيد السمنة من احتمالية الإصابة بارتجاع حمض المعدة إلى المريء.
المشكلات التنفسية
- انقطاع التنفس الانسدادي أثناء النوم (Sleep Apnea): يُعدّ هذا الاضطراب خطيرًا وشائعًا لدى المصابين بالسمنة، حيث يتوقف التنفس ويبدأ بشكل متكرر أثناء النوم، مما يؤثر على جودة النوم ويزيد من خطر الإصابة بمشكلات قلبية وأيضية.
- الربو: تزيد السمنة من احتمالية الإصابة بالربو أو تفاقم أعراضه.
مشكلات العظام والمفاصل
يُشكل الوزن الزائد ضغطًا إضافيًا على المفاصل، خاصة الركبتين والوركين والعمود الفقري. هذا الضغط يزيد من خطر الإصابة بالتهاب المفاصل التنكسي (Osteoarthritis) في سن مبكرة، وآلام الظهر، وقد يؤدي إلى مشكلات في نمو العظام لدى الأطفال والمراهقين مثل انحلال الرأس الفخذي المنزلق.
أنواع معينة من السرطان
ترتبط السمنة بزيادة خطر الإصابة بأنواع عديدة من السرطان، مثل سرطان القولون والمستقيم، الثدي (بعد انقطاع الطمث)، بطانة الرحم، المبيض، الكلى، الكبد، البنكرياس، والمريء.
التأثيرات النفسية والاجتماعية
يعاني الأطفال والبالغون المصابون بالسمنة من وصمة العار والتمييز، مما قد يؤدي إلى مشكلات نفسية مثل القلق، الاكتئاب، تدني احترام الذات، والعزلة الاجتماعية. يمكن أن تؤثر هذه العوامل سلبًا على الأداء الأكاديمي والاجتماعي لدى الأطفال.
مشكلات صحية أخرى
- مشاكل الإنجاب: قد تؤثر السمنة على الخصوبة وتنظيم الدورة الشهرية لدى النساء، وتزيد من خطر متلازمة تكيس المبايض.
- مشاكل الجلد: مثل الالتهابات في ثنايا الجلد.
إن فهم هذه المخاطر يُبرز الأهمية القصوى للوقاية من السمنة وإدارتها بفعالية، خاصة لدى الأطفال، لضمان مستقبل صحي أفضل لهم.
العلاجات
تتعدد العلاجات المعتمدة لإدارة الوزن ومكافحة السمنة والسمنة المفرطة، وتتوقف الخطة العلاجية الأنسب على حالة الشخص الصحية، مؤشر كتلة الجسم (BMI)، وجود أمراض مصاحبة، وما يفضّله المريض شخصياً.
تغييرات نمط الحياة (الحمية الغذائية والنشاط البدني)
تُعدّ هذه الركيزة الأساسية لأي خطة لإدارة الوزن، وهي ضرورية حتى عند استخدام علاجات أخرى.
يُعد النظام الغذائي الصحي الأساس في إدارة الوزن، حيث يرتكز على خفض السعرات الحرارية المتناولة مع التركيز على الأطعمة الغنية بالفوائد الغذائية. يجب أن يشمل هذا النظام الفواكه والخضروات بكميات وفيرة، والحبوب الكاملة التي توفر الطاقة والألياف، بالإضافة إلى البروتينات الخالية من الدهون الضرورية لبناء العضلات والشعور بالشبع. الأهم من ذلك، يوصى بتبني عادات غذائية مستدامة يمكن الاستمرار عليها على المدى الطويل، بدلاً من اللجوء إلى الحميات القاسية التي غالبًا ما تؤدي إلى نتائج مؤقتة وغير صحية.
أما النشاط البدني المنتظم فيُمثل عنصراً حيوياً آخر، حيث يساهم بشكل كبير في حرق السعرات الحرارية وتحسين اللياقة البدنية والصحة العامة. يجب أن يتضمن النشاط البدني مزيجًا من التمارين الهوائية، مثل المشي السريع، الجري، أو السباحة، والتي تعمل على تقوية القلب والرئتين، إلى جانب تمارين القوة التي تبني العضلات وتزيد من معدل الأيض. يُنصح بممارسة ما لا يقل عن ساعة من النشاط البدني المعتدل يوميًا لمعظم أيام الأسبوع، مع إمكانية التدرج في الشدة والمدة بناءً على القدرة البدنية لكل فرد.
بالتوازي مع النظام الغذائي والنشاط البدني، تلعب البرامج السلوكية دورًا محوريًا في دعم جهود إدارة الوزن على المدى الطويل. تُصمم هذه البرامج لمساعدة الأفراد على تطوير عادات صحية راسخة من خلال آليات فعالة مثل المراقبة الذاتية المنتظمة لكمية الطعام المتناول ومستوى النشاط البدني. كما تُمكنهم من تحديد أهداف واقعية وقابلة للتحقيق، وتوفر استراتيجيات لإدارة التوتر الذي قد يؤثر على عادات الأكل. الأهم من ذلك، أن هذه البرامج توفر الدعم والتحفيز المستمر اللازمين للحفاظ على التغييرات الإيجابية وتحقيق النجاح المستدام.
العلاج الدوائي
يُمكن وصف الأدوية المعتمدة لإنقاص الوزن للأشخاص الذين لم يحققوا نتائج كافية بتغيير نمط الحياة وحدهم، خاصةً لمن لديهم مؤشر كتلة جسم مرتفع أو يعانون من حالات صحية مرتبطة بالسمنة. يجب أن تُستخدم هذه الأدوية تحت إشراف طبي صارم بسبب آثارها الجانبية المحتملة. تتوفر العديد من الأدوية المعتمدة لإدارة الوزن، والتي تعمل بآليات مختلفة للمساعدة في تحقيق فقدان الوزن.
بعض هذه الأدوية تعمل على تقليل امتصاص الدهون في الأمعاء، بينما تُحاكي أدوية أخرى عمل هرمونات الجهاز الهضمي (مثل GLP-1 وGIP)، ما يزيد من الشعور بالشبع ويقلل الشهية، وتُؤخذ بعضها كحقن أسبوعية.
توجد أيضًا تركيبات دوائية تجمع بين مواد فعالة تعمل على قمع الشهية وزيادة الإحساس بالامتلاء، بالإضافة إلى أدوية تستهدف مراكز في الدماغ تتحكم في الشهية والمكافأة. كما تتوفر علاجات متخصصة للحالات النادرة من السمنة الناتجة عن نقص هرموني معين، بينما تستهدف الأدوية الأحدث مسارات هرمونية متعددة لتوفير فعالية عالية في إنقاص الوزن. يجب أن تُستخدم جميع هذه الأدوية تحت إشراف طبي دقيق نظرًا لآثارها الجانبية المحتملة.
تُوجد أيضًا بعض التقنيات غير الجراحية الأقل شيوعًا مثل الهلام المائي (كبسولات تمتص الماء لتنتفخ في المعدة)، وإحصار العصب المبهم (جهاز مزروع يرسل نبضات كهربائية للعصب المبهم).
الإجراءات الجراحية لعلاج السمنة (جراحة البدانة)
تُعدّ جراحات السمنة خيارًا فعالًا للأشخاص الذين يعانون من السمنة المفرطة (مؤشر كتلة الجسم 40 أو أكثر، أو 35 مع وجود أمراض مصاحبة خطيرة)، والذين لم ينجحوا في فقدان الوزن بالطرق الأخرى. تتضمن هذه الجراحات تغييرات في الجهاز الهضمي لتقليل كمية الطعام المتناولة أو امتصاص العناصر الغذائية.
تكميم المعدة (Sleeve Gastrectomy)
تُعد إحدى الجراحات الشائعة والفعّالة لمكافحة السمنة، وتتمثل في إزالة جزء كبير من المعدة، عادةً حوالى 75-80% منها. هذا الإجراء يُقلل بشكل ملحوظ من حجم المعدة، ما يجعل المريض يشعر بالشبع بكميات أقل من الطعام. بالإضافة إلى تقليل حجم المعدة، يُساهم التكميم في خفض إفراز هرمون الجريلين (هرمون الجوع)، ما يُقلل من الشهية ويُساعد على فقدان الوزن بشكل مستدام.
تحويل مسار المعدة (Roux-en-Y Gastric Bypass)
يُعتبر إجراءً جراحيًا آخر فعالًا ومعقدًا لإنقاص الوزن. في هذه العملية، يتم إنشاء جيب صغير في الجزء العلوي من المعدة، ويُوصل هذا الجيب مباشرةً بجزء من الأمعاء الدقيقة، متجاوزًا بذلك الجزء الأكبر من المعدة والجزء الأول من الأمعاء الدقيقة. هذا التغيير يُقلل بشكل كبير من كمية الطعام التي يمكن تناولها، ويُقلل أيضًا من امتصاص السعرات الحرارية والعناصر الغذائية، ما يؤدي إلى فقدان كبير في الوزن وتحسن في الحالات المرتبطة بالسمنة مثل السكري من النوع الثاني.
بالون المعدة
هو إجراء غير جراحي ومؤقت يُستخدم للمساعدة في إنقاص الوزن. يتضمن هذا الإجراء إدخال بالون مصنوع من السيليكون، مملوء بمحلول ملحي، إلى المعدة عن طريق المنظار. يعمل البالون على تقليل المساحة المتاحة للطعام في المعدة، مما يُشعر المريض بالشبع بسرعة أكبر بكميات أقل من الطعام. يتم ترك البالون داخل المعدة لفترة تتراوح عادة بين ستة أشهر وعام، ثم يُزال بنفس طريقة إدخاله.
ربط المعدة بالمنظار (Adjustable Gastric Banding)
كان إجراءً شائعًا في السابق، ولكنه أصبح أقل استخدامًا حاليًا مقارنةً بالعمليات الأخرى. يتضمن هذا الإجراء وضع حلقة قابلة للتعديل مصنوعة من السيليكون حول الجزء العلوي من المعدة، ما يُنشئ جيبًا صغيرًا أعلى الحلقة. يمكن للطبيب تعديل ضيق الحلقة عن طريق حقن أو سحب محلول ملحي لضبط كمية الطعام التي يمكن للمريض تناولها. الهدف هو تقييد كمية الطعام وتقليل الشهية.
التحويل الصفراوي البنكرياسي مع تبديل الاثني عشر (BPD-DS)
يُعد من أكثر جراحات السمنة تعقيدًا وفعالية في إنقاص الوزن، ولكنه يُجرى في حالات أقل نظرًا لتعقيداته ومخاطره المحتملة. يتضمن هذا الإجراء تقليل حجم المعدة بشكل كبير (مماثل للتكميم)، ثم يتم تحويل مسار الأمعاء الدقيقة بشكل واسع، ما يُقلل بشكل جذري من امتصاص السعرات الحرارية والدهون والعناصر الغذائية. هذا يؤدي إلى فقدان وزن كبير ومستدام، ولكنه يتطلب متابعة غذائية صارمة لتجنب نقص الفيتامينات والمعادن. تتطلب جراحات السمنة التزامًا كبيرًا بتغييرات دائمة في نمط الحياة والمتابعة الطبية المنتظمة لتحقيق أفضل النتائج وتجنب المضاعفات. يجب دائمًا استشارة طبيب متخصص لتقييم الحالة واختيار خطة العلاج الأنسب والأكثر أمانًا وفعالية.