مقابلات

البروفسور علي طاهر يقود دراسة عالمية من لبنان تغير مسار العلاج

البروفسور علي طاهر يقود دراسة عالمية من لبنان تغير مسار العلاج

الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم

في إنجاز علمي وطبي نوعي يضاف إلى سجل لبنان والجامعة الأميركية في بيروت ومركز الرعاية الدائمة في لبنان، نلتقي اليوم مع البروفسور علي طاهر، أستاذ الطب في قسم أمراض الدم والأورام، مدير معهد نايف باسيل للسرطان في الجامعة الأميركية في بيروت، زميل الكلية الملكية للأطباء نائب الرئيس المساعد للمراكز الأكاديمية والتطوير والعلاقات الخارجية، استشاري مركز الرعاية الدائمة، وقائد تجربة المرحلة الثالثة لعقار ميتابيفات في الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم  (NTDT)، والتي تم نشر نتائجها مؤخرًا في مجلة The Lancet  العالمية المرموقة.

يمثل هذا الإنجاز أول إثبات عالمي لفعالية علاج فموي معدّل لمسار المرض لدى مرضى الثلاسيميا ألفا وبيتا غير المعتمدين على نقل الدم، مقدماً بذلك أملًا جديدًا للمرضى في لبنان والمنطقة والعالم، ومؤكدًا على قدرة لبنان، رغم كل التحديات، على قيادة أبحاث طبية تحدث فرقًا في الرعاية الصحية العالمية.

نود في البداية الإضاءة على أهمية دوركم الشخصي في تصميم وقيادة هذه التجربة العالمية، وما أبرز التحديات التي واجهتموها لتحقيق هذا الإنجاز؟

لقد كان لي الشرف أن أترأس هذه الدراسة العالمية التي شملت مراكز متعددة ، والتي تمثل أول إثبات علمي قوي لفعالية علاج فموي معدّل لمسار المرض في حالات الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم. الى جانب الإشراف العلمي كان دوري أيضًا تصميم بروتوكول الدراسة بالتعاون مع فريق دولي من الخبراء، وضمان تطبيق أعلى معايير البحث السريري.

من أبرز التحديات التي واجهناها كانت الحاجة إلى ايجاد عدد كافٍ من المرضى من مختلف الدول، وضمان التزام الفرق البحثية بإجراءات دقيقة رغم الفروقات الصحية واللوجستية بين المراكز. إضافة إلى ذلك، كانت جائحة كوفيد 19العالمية أحد العوامل التي فرضت تحديات غير مسبوقة على سير العمل.

برأيكم، كيف يعكس نجاح هذه الدراسة المكانة العلمية للأطباء اللبنانيين وإسهاماتهم في تطوير العلاج والبحث الطبي عالميًا رغم الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان؟

يؤكد هذا الإنجاز بشكل واضح أن الإبداع الطبي والعلمي لا تحدّه الظروف. الأطباء اللبنانيون، وعلى رأسهم العاملون في الجامعة الأميركية في بيروت، أثبتوا مرارًا أنهم قادرون على الريادة في مجال البحوث السريرية والمشاركة الفعّالة في تطوير العلاجات الحديثة. ففي ظل أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة، استطعنا أن نحافظ على موقعنا كلاعب أساسي في البحث العلمي، وأن نُثبت أن لبنان ما زال قادرًا على المساهمة في تطور الطب عالميًا.

وفي هدا الاطار، أود أن أشير إلى مشاركتي في دراستين حول الثلاسيميا: إحداهما ركّزت على الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم، حيث كنت الطبيب الأساسي فيها وهي محور حديثنا اليوم؛ أما الدراسة الأخرى، فتناولت الثلاسيميا المعتمدة على نقل الدم حيث كنت طبيباً مساعداً ضمن الفريق. وفي كلتا الدراستين، شاركت في وضع البروتوكول وكافة التفاصيل المتعلقة بهما. الفارق الأساسي بينهما يكمن في الهدف العلاجي: ففي الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم، نسعى إلى رفع مستوى الهيموغلوبين. أما في الثلاسيميا المعتمدة على نقل الدم، فالهدف هو تقليل وتيرة الحاجة إلى نقل الدم أو إطالة الفترة الزمنية بين كل عملية نقل دم وأخرى.

 كيف يعزّز هذا الإنجاز موقع الجامعة الأميركية في بيروت ومركز الرعاية الدائمة في لبنان كمركز إقليمي للتميز البحثي والسريري؟

هذه الدراسة تؤكد مرة أخرى أن الجامعة الأميركية في بيروت هي منارة علمية جدية في المنطقة قادرة من خلال أطبائها على قيادة دراسة نُشرت نتائجها في مجلة The Lancet ، وهي من أكثر المجلات المرموقة في العالم. يدل هذا الإنجاز على التزامنا بالجودة، والبحث المبني على الأدلّة، وخدمة المرضى محليًا وعالميًا. كما و يعزّز موقع الجامعة كمركز إقليمي ليس فقط للتعليم، بل أيضا للأبحاث السريرية المبتكرة والرائدة

اضافة الى ذلك تكمن قوة هذه الدراسة في أبعاد عدّة؛ فهي ليست مجرّد بحث أكاديمي صادر عن الجامعة الأميركية في بيروت ومركز الرعاية الدائمة في لبنان، ما يضفي عليها مصداقية بحثية عالية. الأهم من ذلك، أن نتائج هذه الدراسة ستسهم بشكل مباشر في عملية اعتماد الدواء من قِبل إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA). هذا يعني أن جهوداً بحثية لبنانية ستدعم الموافقة على دواء عالمي، وهو ما يؤكد دور لبنان في الابتكار الطبي على الساحة الدولية ويفتح الباب أمام توفير هذا العلاج للمرضى في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك لبنان، بعد أن يتم التحقق من سلامته وفعاليته من قبل إحدى أقوى الهيئات التنظيمية في العالم.

ما الذي دفعكم لقيادة هذه التجربة السريرية العالمية؟ وما الأهداف التي وضعتموها عند تصميم هذه الدراسة؟

ما دفعني هو الالتزام العميق بتحسين جودة حياة مرضى الثلاسيميا، لاسيما أولئك الذين لا يتلقون نقلًا منتظمًا للدم وتبقى احتياجاتهم العلاجية غير ملبّاة. الهدف الأساسي كان تقييم مدى فعالية وأمان عقار ميتابيفات كعلاج فموي يمكنه تحسين الهيموغلوبين بشكل مستدام، وتقليل العبء المرضي، وتحقيق تحوّل في الرعاية السريرية لهؤلاء المرضى.

بالحديث عن هذه الفئة من المرضى، هل لك أن تعرّف لنا الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم  (NTDT)؟ وما هي مضاعفاتها؟

الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم (NTDT) تشمل حالات مثل الثلاسيميا المتوسطة، ومرض هيموغلوبين H، حيث يعاني المريض من فقر دم مزمن لكن لا يحتاج لتكرار نقل الدم للبقاء على قيد الحياة. قد يحتاج أحيانًا لنقل دم أثناء فترات حرجة مثل الحمل أو العدوى أو بعد الاستئصال الطارئ للطحال.

تؤدي الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم (NTDT) إلى مضاعفات كبيرة، حيث يعاني المرضى من فقر دم مزمن يسبب التعب والضعف المستمرين. كما يؤدي الإنتاج غير الفعّال لخلايا الدم الحمراء إلى خلل في أيض الحديد، ما ينتج عنه زيادة تراكم الحديد في الجسم بسبب زيادة الامتصاص وليس نقل الدم. تشمل المشاكل الشائعة الأخرى الجلطات الدموية (الخثار)، وارتفاع ضغط الدم الرئوي، وتضخم الطحال، وهشاشة العظام، وتقرحات الساق.

كيف تختلف الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم عن الثلاسيميا المعتمدة على نقل الدم من حيث الاحتياجات العلاجية وتحديات المرضى؟

عند الحديث عن الثلاسيميا، نميّز بين فئتين رئيسيتين:

  1. حامل سمة الثلاسيميا: هذا الشخص لا تظهر عليه أعراض المرض، ولكنه يحمل الجين المسبّب له. من الضروري أن يكون حاملو السمة على دراية بخطر إنجاب أطفال مصابين بالثلاسيميا الكبرى إذا تزوّجوا من شخص يحمل السمة أيضاً.
  2. الثلاسيميا الوسطى (غير المعتمدة على نقل الدم): هذه هي الفئة التي تركز عليها دراستنا. تختلف عن الثلاسيميا الكبرى (المعتمدة على نقل الدم) في أن مرضى الثلاسيميا الوسطى لا يحتاجون إلى عمليات نقل دم منتظمة للبقاء على قيد الحياة، على عكس مرضى الثلاسيميا الكبرى الذين يحتاجون إلى نقل الدم كل ثلاثة أسابيع مدى الحياة. نأمل أن تكتمل أبحاثنا حول هذه الفئة الأخيرة وتنشر في مجلة “The Lancet” خلال ثلاثة أشهر.

بالنسبة لمرضى الثلاسيميا الوسطى، قد يحتاجون إلى نقل دم في أوقات محددة وظروف طارئة مثل الحمل، أو قبل الخضوع لعملية جراحية، أو في حالات الحوادث. ومع ذلك، فإن مستوى الهيموغلوبين لديهم يبقى منخفضًا بشكل مزمن، ما يسبب لهم تعباً مستمراً.

الدراسة الحالية التي قمنا بها هدفها هو توفير علاج فموي لهذه الفئة من المرضى، والذي من شأنه أن يرفع مستويات الهيموغلوبين لديهم ويقلّل من الإرهاق الذي يعانون منه، وبالتالي تحسين جودة حياتهم. هذا التحسين في نمط الحياة هو دائماً الهدف الأسمى لأي دراسة بحثية، وهو جزء لا يتجزأ من مسار العلاج.

لماذا كان هناك نقص في الخيارات العلاجية لهؤلاء المرضى حتى اليوم؟

السبب يعود إلى أن معظم الأبحاث السابقة كانت تركز على المرضى المعتمدين على نقل الدم. أما المرضى غير المعتمدين عليه، فغالبًا ما اعتُبروا أقل عرضة للمضاعفات، وهذا اعتقاد خاطئ. لم يكن هناك اهتمام كافٍ بفهم تعقيدات حالتهم، ولذلك تأخرت الدراسات التي تركز على تعديل المسار المرضي لديهم.

كيف يعمل عقار ميتابيفات كعلاج فموي معدِّل لمسار المرض في الثلاسيميا؟

ميتابيفات هو منشط لإنزيم البايروفيت كاينيز في خلايا الدم الحمراء، ما يؤدي إلى تحسين إنتاج الطاقة داخل الخلية، وتقليل تكسر الخلايا، وبالتالي رفع نسبة الهيموغلوبين. هذا التعديل الحيوي في آلية عمل الخلية هو ما يجعل العقار يعدل المسار الطبيعي للمرض ويخفف من أعراض فقر الدم المزمن.

كيف كان ملف الأمان (درجة السلامة) والتحمل للعقار خلال فترة التجربة؟ هل ظهرت نتائج غير متوقعة أثناء الدراسة قد تؤثر على اتجاهات البحث المستقبلي؟

العقار أظهر ملف أمان جيدًا جدًا، وكانت معظم الأعراض الجانبية خفيفة إلى متوسطة ويمكن السيطرة عليها. لم تظهر آثار جانبية خطيرة غير متوقعة، وهذا يعزّز ثقتنا في إمكانية استخدامه بشكل أوسع. لكن بالتأكيد، هناك حاجة المتابعة طويلة الأمد ودراسات إضافية لمتابعة السلامة على المدى البعيد.

كيف يمكن أن يغير عقار ميتابيفات قواعد العلاج لمرضى الثلاسيميا غير المعتمدة على نقل الدم عالميًا؟

ميتاييفات يمثل نقلة نوعية لأنه يتيح خيارًا فمويًا فعالًا ومستدامًا، لأول مرّة، لهؤلاء المرضى. بدلًا من الاعتماد على نقل دم متقطع أو علاجات غير موجّهة، يمكن لهؤلاء المرضى الآن تلقي علاج يعدّل المرض نفسه، ما قد يغيّر بشكل جذري مناهج الرعاية على مستوى العالم.

كيف تبني هذه الدراسة على الجهود السابقة التي قادتها الجامعة الأميركية في بيروت ومركز الرعاية الدائمة مثل تجربة THALASSA وتجربة  BEYOND؟

تجربتا THALASSA و BEYOND مهّدتا الطريق لفهم أعمق لاحتياجات مرضى الثلاسيميا، وسلّطتا الضوء على فعالية العلاجات التي تعدل من توازن الحديد أو تحفّز إنتاج الهيموغلوبين. دراسة ميتابيفات تبني على هذه القاعدة، لكنها تأخذ خطوة إضافية عبر تعديل مباشر للمسار المرضي على مستوى الخلية، ما يجعلها تتمة طبيعية ولكن أكثر تقدمًا في هذا المسار البحثي.

كيف ستنعكس هذه النتائج على نوعية حياة المرضى ومستقبلهم الصحي طويل الأمد؟

رفع مستويات الهيموغلوبين بشكل مستقر له تأثير مباشر على النشاط اليومي، التركيز، وتجنّب مضاعفات فقر الدم المزمن مثل تضخم الطحال أو هشاشة العظام. على المدى الطويل، يمكن أن يؤدي العلاج إلى تقليل الحاجة إلى تدخلات طبية وتقليل العبء النفسي والاجتماعي عن المرضى وعائلاتهم.

ما هي الخطوات القادمة بعد نشر هذه النتائج في مجلة  The Lancet؟

الخطوة التالية هي العمل على تقييم الدواء من قبل الهيئات التنظيمية حول العالم بهدف الموافقة عليه لاستخدامه سريريًا. كما أننا نخطط لإجراء دراسات إضافية لفئات عمرية مختلفة، مثل الأطفال، ولدراسة فعاليته ضمن استراتيجيات علاجية متكاملة. كما نعمل على حملات توعية بين الأطباء والمراكز الطبية لاعتماد هذا الإنجاز كجزء من الممارسات السريرية. ونعمل كذلك على نشر المزيد من الدراسات حول الثلاسيميا المعتمدة لنقل الدم في المستقبل.

من المهم ان نتذكر دائما ان الرسالة المطلقة للطب تبقى ليس فقط في منع المرض إنما في تعزيز الصحة والسلامة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى