الممارسات المستدامة في المرافق الصحية
الممارسات المستدامة في المرافق الصحية
لم تعد خياراً بل جوهر الإدارة المسؤولة
أظهرت الممارسات الطبية المتوسّعة، والتطوّر الكبير الذي يشهده القطاع الإستشفائي، أن هناك تأثيرات بيئية على الرعاية الصحية كما أن هناك تأثيرات للرعاية الصحية على البيئة. ويقول الخبراء إن أي بحث عن الإستدامة البيئية في القطاع الصحي لا بد إلا أن يبدأ من هنا، وإنّ خلْق نمط إستشفائي متقدّم هو ما يسهّل على المراكز الصحية التحوّل إلى مراكز صديقة للبيئة.
الملاحظة الأخرى هي أن الرعاية الصحية لم تكن تُؤخذ عادةً في الاعتبار عند معالجة ما يلزم تغييره للحد من الأثر البيئي. لكن مع الوقت تبيّن أنها البيئة الأهم التي يُمكننا العمل فيها لتحقيق استدامة أكبر. من هنا ينطلق المفهوم الجديد للعمل الطبي المستدام عبر المستشفيات الخضراء. هذا التوجّه إلى نظام صحي أكثر صداقة للبيئة، لم يعد ترفًا أو نمطًا يوحي بمجرّد انعكاس للحداثة. بعد التعمّق في جوهر الممارسة الطبية وأبعادها الممتدة إلى خارج حرم المستشفى، وهي أبعاد صحّية واجتماعية وعملية ومالية، يتبيّن بما لا يقبل الشك أن التحوّل إلى الممارسات البيئية يمتد إلى صلب العمل الإستشفائي لأن الهدف الأساسي هو صحة الإنسان، وصحة الإنسان تبدأ في المجتمع والبيئة الحاضنة ونمط الحياة اليومي، وفي تجنيب الفرد المرض قبل إصابته ومن ثمّ العمل على معالجته وشفائه. وهذا أول ما يضمنه هو الحفاظ على البيئة.
تقول جانفي سولانكي، نائبة رئيس البرامج السريرية في مستشفى همبر ريفر هيلث في تورنتو، كندا: “الاستدامة ليست مجرد هدف، بل هي مسؤولية”. وتضيف: “كل قرار يُتخذ، بدءًا من رعاية المرضى وصولًا إلى العمليات التشغيلية، يجب أن يُراعي الأثر البيئي”.
ملاحظات في إمكانية التغيير
يُعد مفهوم المستشفى الأخضر أمرًا بالغ الأهمية في تعزيز التنمية المستدامة داخل قطاع الرعاية الصحية. تكمن الفكرة في تقليل التأثير البيئي للاستشفاء بالتوازي مع تحسين صحة ورفاهية المرضى والموظفين. يجري العمل على تحقيق هذا الهدف بشكل كبير، وتم تحديده في أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (SDGs)”. ومن المفارقات أن قطاع الرعاية الصحية الذي يُعتبر حاميًا للصحة، هو في الوقت نفسه المصدر الرئيسي للملوثات البيئية التي تؤثر سلبًا على الصحة. من هنا انطلقت أهمّية تحوّل مؤسسات القطاع الصحي إلى مؤسسات خضراء صديقة للبيئة. وقد أصبحت الاستدامة أولوية رئيسية للعالم أجمع، بهدف تحسين الموارد بكفاءة والاعتراف بها في المجتمع. لا بد من الإشارة هنا إلى ضرورة استكشاف تكامل الطاقة المتجددة والممارسات المبتكرة وأنظمة إدارة المباني الذكية والفوائد والتحديات في تنفيذ ممارسات الاستدامة. تتضمن متطلبات اعتماد المستشفيات الخضراء تقييم مرافق الرعاية الصحية وفقًا لمعايير وسلوكيات استدامة بيئية محددة تُقلل من استهلاك الموارد، وتُخفض البصمة الكربونية، مع الحفاظ على رعاية عالية الجودة للمرضى ورضا الموظفين. وبهذا المعنى تُمثل المستشفيات الخضراء خطوةً مُلهمة نحو تبنّي الرعاية الصحية الصديقة للبيئة.
وقد بدأت أمثلة على هذا التغيير في رؤية المستشفى لما ينبغي أن يكون عليه دوره في جميع أنحاء العالم. ويومًا بعد يوم يرتفع عدد مراكز الرعاية الصحية التي تتقدم بطلبات للحصول على شهادات بيئية، وتُعدّل عملياتها بما في ذلك إنشاء غرف عمليات خضراء والحد من النفايات. لكن هذا التحوّل لا يتم من دون جهود كبيرة وتخطيط، وهو لدى المستشفيات أكثر تعقيدًا مما هو عليه في قطاعات أخرى. ويكمن التحدي الأكبر الذي تواجهه المستشفيات في تحوّلها الأخضر، في طبيعتها. فهي ليست فقط مساحات حساسة، بل تحافظ أيضًا على نشاط دائم، إذ لا توجد لحظة راحة ما يتطلب منها الكثير من الطاقة، حتى في الليل بخلاف المصانع والمكاتب مثلاً.
كيف يُمكننا تغيير المستشفيات لجعلها أكثر صداقة للبيئة؟
تهدف أجندة المستشفيات العالمية الخضراء، إلى استبدال المواد الكيميائية الضارة، وتحسين إدارة النفايات، وتعزيز كفاءة الطاقة، وتقليل استهلاك المياه، وتصميم مستشفيات أكثر خضرة. لإجراء التعديلات آثار مباشرة، فهي توقف انبعاث أطنان من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. وتقول نظرية التغيير “إن صحة من يعيشون على الكوكب هي أيضًا صحة الكوكب نفسه”. ولذلك صُمم المستشفى الأخضر مراعيًا ثلاثة عناصر أساسية: المحافظة على البيئة، والرشاقة، والرقمنة. يضمن هذا النهج الأساسي إدماج الاستدامة في جميع جوانب العمليات. من خلال تقليل النفايات، وكفاءة البنية التحتية، والممارسات السريرية الخضراء.
ولبناء نظام رعاية صحية مستدام، يجب أن يلعب قطاع الرعاية الصحية دورًا حاسمًا في تعزيز الاستدامة. على سبيل المثال، تستخدم المؤسسة “تقنية هضم نفايات الطعام” ORCA لتحويل النفايات العضوية إلى سوائل، وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. تُحضّر فرق خدمة الطعام 80% من قائمة الطعام طازجة في الموقع، وتُغلّف الطعام الزائد بتفريغ الهواء لتقليل النفايات، وتوفر أدوات قابلة لإعادة الاستخدام كلما أمكن ذلك.
تُدرك المستشفيات تمامًا أثرها البيئي وكيف ينبغي لها، أو يُمكنها، الحد منه. هناك بالفعل تطوّر هام في مجال “المستشفيات الخضراء”.
هناك شبكات عالمية من مراكز الرعاية الصحية تُجري تعديلات للحد من تأثيرها، وحملات تستهدف الجمهور – الذين يحتاجون إلى المشاركة في الإدارة السليمة للنفايات الطبية – وإجراءات لتجديد المرافق التي تراعي المعايير البيئية. وفي بعض الأحيان، تُمثل الاحتياجات التشغيلية لمراكز الرعاية الصحية فرصة سانحة لإجراء هذه التعديلات.
خارطة طريق لصحة أفضل
ثمّة تجارب أثبتت فعاليتها على صعيد المجالات التي تجعل المستشفى يتحوّل إلى مستشفى صديق للبيئة منها أن تركيب الألواح الكهروضوئية سيُمكّن المستشفى من توفير 25% من استهلاك الطاقة. وفي المستقبل يُمكن القيام بالمزيد، مثل استخدام هذه الحلول لتشغيل نقاط شحن السيارات الكهربائية أو تلبية جميع احتياجات المستشفى من الطاقة. فالانتقال إلى أنظمة موفرة للطاقة يعد أمرًا حيويًا.
ويمكن أن يؤدي تطبيق تقنيات توفير الطاقة مثل استخدام مصابيح (LED) وأنظمة المباني الذكية ومصادر الطاقة المتجددة، إلى تقليل انبعاثات الكربون في المستشفى بشكل كبير. وبفضل هذا النظام ومبادرات أخرى صديقة للبيئة، نجحت المستشفيات في خفض استهلاكها للطاقة بنسبة كبيرة بلغت 60%، مُقدِّمة بذلك مثالًا يُحتذى به لمرافق رعاية صحية مماثلة.
تتضمن استراتيجيات التنفيذ الرئيسية: البنية التحتية والتصميم وكفاءة الطاقة وتكامل الطاقة المتجددة. وهذا ما سيحد في شكل كبير من انبعاثات الغازات الخضراء المرتبطة باستخدام الطاقة التقليدي. ولضمان أن المباني المصمّمة للرعاية الصحية تعمل بسلاسة وتحافظ على جودة البيئة الداخلية المرضية (IEQ)، يجب أن تظل المكونات المختلفة قيد التشغيل بما في ذلك التدفئة والتبريد والمياه والإضاءة.
وتُعدّ إدارة النفايات مجالًا بحثيًا جديدًا نسبيًا ومُجزيًا في مجال الرعاية الصحية. تُنتج رعاية المستشفيات كميات كبيرة من النفايات، وتُساهم غرف العمليات بنسبة كبيرة منها. يُمكن للفرز السليم وإعادة التدوير وتقنيات إدارة النفايات المُبتكرة أن تُقلل من النفايات الطبية وتأثيرها البيئي. كما أن المشتريات المستدامة لا تقل أهمية عن باقي العناصر الصديقة للبيئة في المستشفى. يُمكن مثلاً لاختيار اللوازم والمعدات الطبية والأغذية الصديقة للبيئة أن يُقلل من البصمة البيئية الإجمالية للمستشفى. ومن الأمثلة على ذلك اختيار نوع زجاج النوافذ، وهو قرار حاسم في ما يتعلق بترشيد استهلاك الطاقة وتقليل أحمال التدفئة والتبريد القصوى. تعمل مباني الرعاية الصحية (HB) باستمرار على مدار الساعة، وهي بالغة الأهمية للمجتمع. فالتقييم المستمر لجودة البيئة الداخلية يُعد ضمانًا لسلامتها وأمرًا بالغ الأهمية لتعافي المرضى. ويُعد التقييم والإدارة المستمران لجودة الهواء الداخلي وغرف العمليات أمرًا إلزاميًا. ويمكن تحقيق ذلك من خلال مراقبة جودة الهواء باستخدام أنظمة ترشيح متطورة لتقليل الملوثات المحمولة بالهواء، كمواد سامة في الدهانات والمواد اللاصقة والمفروشات التي تحتوي على مركبات عضوية متطايرة (VOCs).
كذلك فإن تصميم المباني الخضراء (مواد البناء المستدامة): يُمكن أن يُعزز دمج ميزات مثل الإضاءة الطبيعية والأسطح الخضراء والمواد المستدامة، كفاءة الطاقة ويُهيئ بيئات علاجية.
تسعى هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) في المملكة المتحدة إلى الحد من التأثير البيئي لأجهزة الاستنشاق، والتي تُسهم بشكل كبير في بصمتها الكربونية. وقد شجعت على التحول من أجهزة الاستنشاق بالجرعات المُقاسة إلى أجهزة الاستنشاق بالمسحوق الجاف، مما قد يُقلل انبعاثات الكربون بمقدار 58 كيلوطن سنويًا. كما تتبنى المستشفيات حول العالم ممارسات مبتكرة لتصبح أكثر مراعاةً للبيئة مع الحفاظ على معايير عالية لرعاية المرضى. ومن المرجح أن يتسارع التوجه نحو المستشفيات الخضراء مع إدراك مؤسسات الرعاية الصحية لدورها في مكافحة تغيُّر المناخ وتعزيز الصحة العامة.
دور أكثر أهمّية
لكن قطاع الرعاية الصحية يواجه تحدي الموازنة بين مهمته في إنقاذ الأرواح وتقليل بصمته البيئية. ويُقال إن المستشفيات يجب أن تعمل من أجل شفاء المرضى والكوكب. ومع استمرار تغيّر المناخ في فرض مخاطر صحية كبيرة، يصبح دور مؤسسات الرعاية الصحية في الإدارة البيئية أكثر أهمية. لا تقلل المستشفيات الخضراء من تأثيرها البيئي فحسب، بل تقود أيضًا بالقدوة، وتعزز الاستدامة داخل مجتمعاتها وقطاع الرعاية الصحية الأوسع.
ومع تحديات تغيّر المناخ التي تهدد الصحة العامة بشكل كبير، تزداد أهمية مؤسسات الرعاية الصحية في حماية البيئة بشكل حيوي. مباني الرعاية الصحية المستدامة هي تلك المصممة لتقليل استخدام الموارد الطبيعية، وتعزيز النمو الاقتصادي، والصحة العامة، والحد من التلوث. تعتمد مباني الرعاية الصحية الخضراء حلولاً مستدامة تركز على تقليل التلوث البيئي، التأثير وتعزيز صحة شاغليها ورفاهيتهم. ولذلك باتت مباني الرعاية الصحية الذكية تستخدم التكنولوجيا المتقدمة وأنظمة إدارة المباني لتحسين رعاية المرضى والكفاءة التشغيلية وأداء المبنى. وعليه، تمتد فوائد المستشفيات الخضراء إلى ما هو أبعد من حماية البيئة. وقد أظهرت الدراسات أن المستشفيات الخضراء يمكن أن تحسن نتائج المرضى، وتقلل تكاليف التشغيل، وتعزز رضا الموظفين.
تلعب المستشفيات الخضراء، المصممة والمدارة مع وضع الاستدامة في الاعتبار، دورًا محوريًا في هذا المسعى. واستراتيجيات التصميم الأخضر تُستخدم بشكل متكرر كحلول في كل من المشاريع المعمارية الجديدة والمجددة. تطبِّق المستشفيات التي تعطي الأولوية للاستدامة ممارسات صديقة للبيئة في جميع عملياتها. وتهدف المستشفيات الخضراء إلى تقليل بصمتها البيئية مع الحفاظ على رعاية عالية الجودة للمرضى وتعزيز صحة المجتمع. يُمثل التوجه نحو المستشفيات الخضراء تحولاً جوهرياً في تقديم الرعاية الصحية. ومع تزايد إلحاح المخاوف البيئية، لم يعد اعتماد الممارسات المستدامة في مرافق الرعاية الصحية خياراً، بل أصبح عنصراً أساسياً في الإدارة المسؤولة للرعاية الصحية. فالمستشفيات الخضراء باتت تُعدّ حجر الزاوية في التنمية المستدامة، مما يُثبت أن القضايا البيئية والتميز في الرعاية الصحية يمكن أن يسيرا جنباً إلى جنب. ومن خلال إعطاء الأولوية للتصميم المدروس، والاستخدام الفعال للموارد، ورفاهية المجتمع، تُقدِّم هذه المرافق مثالاً على كيفية رعاية كوكبنا مع تقديم رعاية من الدرجة الأولى.