مقالات طبية

الرعاية الصحية الصديقة للبيئة

الرعاية الصحية الصديقة للبيئة

مستشفيات خضراء ومؤتمرات توعية لمواكبة احتياجات المرضى المتغيّرة 

إنطلاقا من المفهوم الحديث لرسالة المستشفى، أي أن تحافظ على سلامة الأصحّاء قبل أن يعتلّوا فتعالجهم كمرضى، تُكثِّف المستشفيات اهتمامها ببيئة البناء الخارجية والداخلية، هندسةً وتنسيقَ حدائق وتجهيزات لتشمل الممارسات الطبية من لحظة دخول المريض إلى المستشفى وصولا إلى أأمن طرق تلف الأدوية والمخلفات الطبيّة. فدور مؤسسات الرعاية الصحية المستدامة لا يقتصر على مساعدة البيئة فقط، ولكنه يشمل إنشاء مستقبل مشرق للمرضى والفريق الطبي وحتى أصحاب المصالح المختلفين. وتتوسّع هذه النظرة أكثر يوما بعد يوم معتمدة منهجيات حديثة في مفهوم الصحة ومحقِّقة أهدافاً سامية متّسقة مع المفهوم الحقيقي للرسالة الطبية.

في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، انطلقت قمة المناخ “كوب 27”، بمنتجع شرم الشيخ المصري، وامتدّت أعمالها على مدى أسبوعين، بمشاركة وفود أكثر من 190 دولة وممثلي المنظمات الإقليمية والدولية المعنية بشؤون البيئة والمناخ. واعتُبِرت من أنجح قمم المناخ التي عقدت على مستوى تاريخها، خاصة وأنها ناقشت القضايا المناخية المهمّة، وطرق تقليل الإنبعاث الكربوني الذي يؤثر على كامل كوكب الأرض بشكل خطير. وبرزت في مداولات القمّة مسائل تعني القطاع الصحي والإستشفائي، بحثًا عن الحلول لتقليل آثار المخلفات الطبيّة وتشديدًا على أهميّة تحوّل المستشفيات إلى مبانٍ واساليب خضراء كمساهم فعّال في حماية البيئة. 

ويُعتبَر القطاع الطبي ضمن القطاعات المهمة التي تسير على خطى الاتجاه نحو الأخضر، ليكون قطاعاً صديقاً للبيئة من خلال تحوّل المستشفيات إلى خضراء. وفي منتصف العام الجاري، أعلن الدكتور خالد عبد الغفار وزير الصحة والسكان المصري، إطلاق مصر نموذج المستشفيات الخضراء، والتي تعتمد على الطاقة النظيفة والمتجددة، وتستهدف التدوير الأمثل للنفايات الطبية، وتقليل إهدار المستلزمات والأدوية، من خلال استراتيجية تقوم بها كافة مؤسسات الدولة. كما استضافت دبي فعاليات مؤتمر الاتحاد العالمي للمستشفيات، ويشمل هذا الحراك الصحّي معظم البلدان العربية وطبعا المجتمع الدولي المتجه بقوة نحو اعتماد البيئات الخضراء.

هذا النمط المتنامي من الثقافة الإستشفائية الصديقة للبيئة والذي بدأ منذ فترة يغزو العالم بكلّيته، يتوسع أكثر فأكثر في العالم العربي، لا سيما في دول الخليج التي تشق طريقًا رائدًا على هذا المستوى وتحقق النجاحات تلو النجاحات حيث يزداد هذا المسار توسّعًا نظرا لأهميته الصحيّة أولًا وانعكاسات اعتماده الإيجابية على المرضى، ولما له من مردود بات ملحًّا على البيئة لحمايتها من التدمير الحاصل عالميًا، وأيضا لما يوفّر اعتماد المباني الخضراء لا سيما المستشفيات، من إنفاق يمكن استخدامه في الإستثمار لتطوير البيئات الصحية والخدمات الإستشفائية، خدمة لصحّة الفرد والمجتمع.

التقنية الخضراء في المستشفيات

مثالا على ذلك، يقول الخبراء أنه سيكون للإضاءة الموفرة للتكاليف والملائمة للرعاية الصحية مستقبل واعد في القطاع الصحي. حيث يمكن أن تساعد أنظمة الإنارة الموفرة للطاقة على توازن تأثير تكاليف الكهرباء المتزايدة بشكل سريع. وباستخدام أنظمة إضاءة المستشفيات المبنية على الابتكار، يمكن مواكبة الاحتياجات المتغيّرة للمرضى والتطورات المستمرة في مجال التقنية الطبية. فالإضاءة يمكن أن تساعد في جذب فرق العمل من ذوي المستوى الرفيع والحفاظ على بقائهم عن طريق خلق بيئة عمل مريحة وعملية. ويمكنها حتى تحسين أداء فريق العمل – حيث أظهرت الدراسات تحسن الأداء العقلي والذاكرة بنسبة تصل إلى 25% في البيئات المضاءة بشكل أفضل والتي يتخللها ضوء النهار. كما يستفيد المرضى أيضًا، حيث تساعد الأجواء المُطَمْئِنة في تقليل الشعور بالقلق لديهم. وأظهرت البحوث أن استخدام الإضاءة المناسبة يمكن أن يحسن من فترة نوم المريض بنسبة 8%. وبالأموال التي يتم توفيرها من خلال استخدام الإضاءة الموفرة للطاقة، يمكن الاستثمار في معدات تسهّل من العملية العلاجية بصورة أفضل وترفع مستوى أدائها.

ويمكن للتقنية المستدامة المتوافقة مع شروط حماية البيئة أن تساعد على تحقيق أهداف متعددة في العمل. فالمباني الخضراء توفر ما يصل إلى 30% من الطاقة مقارنةً بالمباني التقليدية، مما يعمل على خفض تكاليف التشغيل وتوفير الأموال التي يمكن استخدامها في أمور أخرى. وقد برهنت التجارب أن الشركات المستدامة تحقق نجاحًا أكبر من الناحية الإحصائية وتزيد قيمة الأصول الخاصة بها بنسبة تصل إلى 16% مقارنة بتلك التقليدية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن إنشاء أبنية خضراء للمستشفيات يحقق ما لا نتوقعه للعلامة التجارية. فالتقنية المستدامة تساعد في تحقيق أهداف المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة الإستشفائية ومن ثم يمكن لها الحصول على الشهادة الخضراء من السلطة المحلية الخاصة بها. ومن خلال إضافة 2% من الميزانية إلى أعمال البناء من أجل الاستدامة، يمكن أن تصل القيمة الخاصة بالاسترداد إلى 10 أضعاف المبلغ الذي يكون قد تمّ استثماره. 

أهمية التحوّل الصديق للبيئة

للمستشفيات الخضراء أو الصديقة للبيئة أهمية بالغة ومميزات عديدة تخدم القطاع الطبي ومستخدميه من المرضى وذويهم. ومن هذه التحولات تجنّب إنتاج الانبعاثات الكربونية الدفيئة، واستخدام أفضل وسائل التكنولوجيا في العلاج. 

فمثلا بدأت المستشفيات بإنشاء محطات ذاتية للطاقة الشمسية لتوليد الطاقة النظيفة والمتجددة. واستبدال كافة أجهزة ضغط الدم الزئبقية وموازين الحرارة بأخرى آمنة ودقيقة. واستبدال وحدات معالجة النفايات الطبية بالحرق بأخرى حديثة للمعالجة بالفرم والتعقيم، وتوفير أماكن فصل النفايات العادية. كما إنشاء محطات لتحلية وتنقية المياه، وتطوير أنظمة ري حديثة ومشروعات التشجير. 

وفي دولة الإمارات، كشفت هيئة الصحة بدبي أنها تعمل على دراسة خطة لتحويل المستشفيات الحكومية والخاصة في الإمارة لتصبح خضراء صديقة للبيئة، مؤكدة أنها باشرت وضع آلية التنفيذ، ووضع الملامح العامة للتحول، لتدخل حيز التنفيذ بعد اعتمادها. جاء ذلك على هامش استضافة دبي فعاليات الدورة الــ45 لمؤتمر الاتحاد العالمي للمستشفيات في العاشر من نوفمبر / تشرين الثاني الماضي، تحت شعار “تحقيق الاستدامة ومستقبل قطاع المستشفيات في 2030”، وشارك فيه أكثر من 1000 خبير، يمثلون أكثر من 60 دولة من مختلف قارات العالم، ما يدل على أهميته من جهة وأيضاً على أهمية تحوّل القطاع الصحي إلى صديق للبيئة والتوسّع في نشر المستشفيات الخضراء. وقد شدد الاتحاد الدولي للمستشفيات على أهمية زيادة الوعي، وتقديم الدعم لمديري المستشفيات لضمان رعاية صحية مستدامة على مستوى العالم. وتم التأكيد على واحدة من القضايا العالمية المهمة، والتي جاءت تحت عنوان “التعامل مع التغيّر المناخي على أنه جزء لا يتجزأ من تقديم الرعاية الصحية”.

 وقال رئيس اللجنة المنظمة للمؤتمر، الدكتور رمضان البلوشي، إن هيئة الصحة بدبي وضعت خطة لتحويل مستشفيات الإمارة تدريجياً لتصبح خضراء، من حيث استهلاكها للطاقة والانبعاثات الصادرة عنها، والرعاية الصحية المستدامة، وتطبيق أفضل الممارسات والابتكارات والحلول الذكية والتكنولوجيا الرقمية في القطاع الصحي، لتقديم الخدمات الصحية المستدامة لأفراد المجتمع، وضمان استمراريتها أثناء الأزمات وبعدها.

وفي هذا الإطار، أفادت نائب رئيس اللجنة المنظمة، ورئيس اللجنة العلمية لمؤتمر الاتحاد الدولي للمستشفيات، الدكتورة فريدة الخاجة، بأن معايير المستشفيات الخضراء تركز بشكل أساسي على الاعتماد على الطاقة الشمسية مصدراً للطاقة، وتقليل الانبعاثات الإشعاعية، واستخدام المواد الكيميائية. 

منحى رائد يزداد توسّعاً

هذا النموذج يتعمم على مزيد من البلدان حيث بدأ العديد منها يستند إلى نظام عصري لتقييم المستشفيات الخضراء، هو واحد من أنظمة تقييم مباني الرعاية الصحية التي تصدرها المؤسسات المعنية بقضية الاستدامة في مختلف الدول. ويحتوي النظام على مجموعة من البنود الأساسية التي من خلالها يمكن تقييم مباني الرعاية الصحية الخضراء. 

قد يحتاج هذا النظام لمجموعة من المراجعات خلال الفترة القادمة. ونتيجة للارتباط الكبير بين قضايا الاستدامة والعمارة الخضراء، فيهدف هذا البحث إلى دراسة إمكانية تطوير النظام ليكون نظاما لتقييم الاستدامة بكشل كامل في مباني الرعاية الصحية وليس المستشفيات الخضراء فحسب، وذلك عن طريق دراسة مفهوم الاستدامة ومتطلباتها بشكل عام في مباني الرعاية الصحية، ثم تحديد العناصر الأساسية للاستدامة في تلك المباني، ودراسة نظام التقييم الجديد، لتحديد مدى شموله لكافة العناصر والبنود المطلوب توافرها لتقييم مباني الرعاية الصحية من زاوية الاستدامة، وهل البنود المعتمدة كافية لتقييم الاستدامة؟ أم يحتاج النظام إلى إضافة بعض البنود أو المعايير التي تنقصه، وما هي المجالات والاضافات المطلوب الدعم في شأنها؟ ليتحول من نظام لتقييم المستشفيات الخضراء إلى نظام لتقييم الاستدامة في مباني الرعاية الصحية. 

ومعلوم أن منشآت الرعاية الصحية في العالم مسؤولة عن نسبة ما يقرب من 5% من الانبعاثات الضارة، ما أطلق توجها لضم خدمات الرعاية الصحية للتحول الأخضر. وفي هذا الإطار تؤكد الدراسات أن أبرز أسباب التحولات المناخية هي حرق الوقود الأحفوري والانبعاثات الضارة الناتجة عنه، والذي يسبب احتباسا حراريا. وتضيف أن المستشفيات الخضراء تحد من الانبعاثات الضارة، بخطة عالمية تتجه لجعل الانبعاثات الناتجة من المستشفيات تساوي نسبة صفر، مشيرةً إلى أن العمل من خلال تلك المستشفيات يعتمد على جعلها تسبب النسبة الأقل من الانبعاثات الضارة، وذلك من خلال تغيير الطبيعة الإنشائية للمباني والأنشطة الاستهلاكية بالمستشفى.

هذا المنحى يزداد توسّعاً عالمياً وعربياً وبدأ يعطي ثماره ضمن ما بدأ باعتماده من المستشفيات والمؤسسات الصحية، مؤسِّساً لأمل واعد سواء على الصعيد البيئي عموماً أو على صعيد تطوير المستشفيات لتصبح مانحاً متكاملاً للصحة ليس في عملها العلاجي فقط وإنما في مبناها وتشغيلها وكل ما يحيط بها أو يتصل بها من عناصر ومساحات وآليات عمل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى