كيف يمكننا زيادة الانتاجية ومنع الإرهاق في مجال الرعاية الصحية؟
كيف يمكننا زيادة الانتاجية ومنع الإرهاق في مجال الرعاية الصحية؟
المرونة الذهنية والعاطفية هي الحل.
سينثيا المرتضى – مدربة صحية معتمدة من المجلس الوطني ومؤسسة العلامة العالمية في الرفاه Wellness By C
في ردهات المستشفيات وغرف الطوارئ وعيادات الفحص، هناك أناس يرتدون معاطف بيضاء وسماعات أذن، يهرولون بين مريض وآخر، يخففون التعب بابتسامة، ويواصلون العمل وسط ضغط لا يُطاق. هؤلاء الأبطال هم أطباء وطبيبات، ممرضون وممرضات، معالجون ومعالجات، وفنيون وإداريون يعملون بصمت، وأحياناً، حتى الإنهاك.
الإرهاق المهني في قطاع الرعاية الصحية لم يعد ظاهرة عابرة، بل صار واقعاً يهدد صحة مقدمي ومقدمات الرعاية أنفسهم، ويؤثر على جودة الرعاية التي يحصل عليها المرضى. في دراسة لمنظمة الصحة العالمية، أُشير إلى أن أكثر من 50٪ من العاملين في المجال الطبي في الشرق الأوسط يعانون من علامات متقدمة للإرهاق، تشمل القلق المزمن وضعف التركيز ومشاكل النوم. ومع ذلك، لا يزال الحديث عن صحة مقدمي الرعاية أنفسهم من المحرّمات في العديد من المؤسسات.
لكن لماذا نعتبر رعاية الذات رفاهية في حين أنها شرط أساسي للعطاء الحقيقي؟
في العالم العربي، نُمجّد التضحية، ونربط النجاح بالصبر والتحمل. لكن العلم يخبرنا أن هناك حدودًا لهذا التحمل، وأن الإرهاق المستمر ليس علامة على القوة، بل إنذار بأن الجسد والعقل يوشكان على الانهيار.
هنا تأتي المرونة الذهنية كأداة ثورية، ليست فقط لمنع الإرهاق، بل لبناء قدرة داخلية مستدامة على التعامل مع التوتر، واتخاذ قرارات أفضل، وممارسة التعاطف من دون استنزاف الذات.
أحد أكثر البرامج فعالية في هذا السياق هو برنامج تقليل التوتر القائم على اليقظة الذهنية \MBSR\، الذي طوّره البروفيسور Jon Kabat-Zinn في كلية الطب بجامعة ماساتشوستس. هذا البرنامج، الذي أثبت فعاليته عبر آلاف الدراسات، يدمج بين تمارين التأمل والوعي الجسدي والحركة اللطيفة وتمارين التنفس، في طريقة عملية وعلمية، تساعد الناس على الاستجابة للضغوط بصفاء وهدوء، حتى في البيئات عالية المخاطر مثل المستشفيات.
إليك بعض الأدلة العلمية:
-
في دراسة من كلية هارفارد للطب، أظهرت صور الرنين المغناطيسي للدماغ أن 8 أسابيع فقط من المشاركة في برنامج MBSR زادت من كثافة المادة الرمادية في مناطق الدماغ المسؤولة عن التركيز والتحكم في الانفعالات واتخاذ القرار.
-
في جامعة براون، تبيّن أن ممارسة اليقظة الذهنية قللت من مؤشرات الالتهاب في الجسم بنسبة تصل إلى %30، ما يدعم المناعة ويقلل من احتمالية الإصابة بأمراض مزمنة.
-
دراسات أخرى ربطت بين MBSR وتحسن جودة النوم، وتقليل الإرهاق العاطفي، وزيادة الرضا الوظيفي، وتعزيز المشاركة المهنية.
إذن، كيف يبدو ذلك على أرض الواقع في المستشفيات؟
هذا البرنامج يمكن أن يُدمج في ورش عمل قصيرة، أو كجزء من برامج تطوير الموظفين، ويمنح العاملين والعاملات أدوات بسيطة وفعّالة مثل:
- مهارات للتعامل مع الضغط الحاد، خصوصًا في الطوارئ أو العناية المركزة.
- ممارسات التهدئة الذاتية التي تساعد على إعادة التوازن بعد مواقف مرهقة.
- تقنيات تعزز من جودة التواصل بين الطاقم الطبي والمرضى، حتى في ظل الإجهاد.
- بيئة داخلية مستقرة تقلل من التوتر المتراكم وتحمي من الانهيار.
هذا النوع من التدريب لا يحمي الأفراد فحسب، بل يُحسن أداء الفرق الطبية أيضًا، ويُقلل من نسب الغياب، والاستقالات، والأخطاء المهنية.
نحن لا نطلب رفاهية – بل نُعيد تعريف القوة.
في ثقافتنا، نميل إلى الخجل من طلب المساعدة ونعتبر الاستراحة ترفًا. لكن، الطبيب أو الطبيبة المرهقة، والممرض أو الممرضة الذين يعملون من دون صفاء ذهني أو تنظيم عاطفي، لا يمكنهم تقديم أفضل ما لديهم.
تجارب ناجحة في الولايات المتحدة:
-
في الولايات المتحدة، طُبقت العديد من التدخلات ضمن أنظمة الرعاية الصحية لدعم صحة ورفاهية مقدمي الرعاية الطبية. على سبيل المثال، أطلقت مستشفى “مايو كلينيك” \Mayo Clinic\ برنامجًا شاملاً يُركز على تقنيات اليقظة الذهنية والاستشارات النفسية وورش العمل الجماعية لتحسين الصحة النفسية وتقليل مستويات التوتر. ووفقًا لتقاريرهم، ساهم البرنامج في تقليل معدلات الإرهاق بنسبة %30 وزيادة معدل الرضا الوظيفي بين الأطباء والممرضين.
-
كما نفذت شركة “كايزر بيرماننتي” \Kaiser Permanente\ برنامجًا يتضمن تقييمات دورية لصحة العاملين النفسية، بالإضافة إلى ورش عمل للتعامل مع التوتر وتقنيات التأمل الواعي. وأظهرت الدراسات أن هذه البرامج أدت إلى انخفاض في الإجازات المرضية وزيادة ملحوظة في إنتاجية الموظفين.
تُظهر هذه المبادرات الناجحة أن الاستثمار في الصحة النفسية والعاطفية لمقدمي الرعاية ليس ممكنًا فحسب، بل ضروري أيضًا لإنشاء نظام رعاية صحية أقوى وأكثر استدامة. وأنا على ثقة بأن تطبيق استراتيجيات مماثلة في أنظمة الرعاية الصحية العربية يمكن أن يخلق بيئة داعمة تمكّن العاملين من تقديم أفضل ما لديهم من دون استنزاف نفسي أو جسدي.
أنا أؤمن بأن تقنيات تقليل التوتر القائمة على اليقظة الذهنية \MBSR\ يمكن أن تكون أداة ثورية للحد من الإرهاق وتعزيز المرونة النفسية وتحسين الصحة النفسية للعاملين في المجال الصحي. تتميز برامجي بالمرونة، ويمكن تقديمها بصيغ قصيرة وطويلة الأجل، في بيئات فردية أو جماعية لتلبية الاحتياجات المحددة لطاقم المستشفى. من خلال تقنيات اليقظة الذهنية المدعومة علميًا، أعتقد أن برامج اليقظة الذهنية المدعومة علميًا يمكن أن تساعد الفرق الطبية على إدارة التوتر بفعالية، والحفاظ على أداء عالٍ، وتحقيق توازن مستدام بين العمل والحياة. إن الاستثمار في رفاهية مقدمي الرعاية الصحية هو استثمار مباشر في جودة الرعاية المقدمة للمرضى.
أثق بأن المستقبل يكمن في أيدي الإداريين الذين ينفذون رؤى طويلة الأجل ويدعمون برامج أسبوعية تعنى برفاهية الموظفين. على الحكومات أيضاً أن تتجه نحو رؤية واضحة لتأسيس نظام رعاية صحية يتضمن مدربًا صحيًا معتمدًا في كل منشأة طبية، يهتم بالصحة النفسية والعاطفية للعاملين فيها، ويجري تقييمات صحية إلزامية دورية لمتابعة وتعزيز الصحة النفسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تنظيم ورش عمل منتظمة ورحلات علاجية \Retreats\ لتحفيز التجديد الذهني والجسدي للعاملين في المجال الصحي، ما يساهم في خلق بيئة عمل أكثر استدامة وإنتاجية.
يبدأ التحول الحقيقي في الرعاية الصحية من الداخل.
يبدأ التحول عندما نؤمن أن مقدمي الرعاية ليسوا آلات. إنهم بشر. وعندما نهتم بإنسانية هؤلاء، فإنهم يزدهرون، ويزدهر معهم كل من حولهم. لقد حان الوقت أن نقول بوضوح: رفاهية مقدمي الرعاية ليست اختيارية بل ركيزة أساسية.
عن الكاتبة:
سينثيا المرتضى، مدربة صحية معتمدة من المجلس الوطني الأميركي، ومؤسسة Wellness By C، علامة عالمية في مجال العافية والوقاية. حاصلة على تدريب متقدم في تقنيات تقليل التوتر القائم على اليقظة الذهنية من جامعة براون وكلية هارفارد للطب، وحاملة لماجستير إدارة الأعمال من IE Business School، وماجستير في السياسات العامة من الجامعة الأميركية في بيروت. تعمل حاليًا مع مستشفيات ومؤسسات حول العالم لتمكين العاملين والعاملات في المجال الصحي من بناء مرونة داخلية، وتفادي الإرهاق، وتحقيق التوازن الهادف والمستدام.