المستشفيات الخضراء… من معالجة المرضى إلى حماية الأصحاء… كيف؟
المستشفيات الخضراء
من معالجة المرضى إلى حماية الأصحاء… كيف؟
تقوم فكرة المستشفى في الأساس على معالجة المرضى ليتعافوا فيعودوا أصحاء، لا أن يكون سببًا في أي حال من الأحوال بتحويل الأصحاء إلى مرضى، وفي أحيان كثيرة بإصابات لا شفاء منها. من هنا بدأ التفكير الجاد في إعادة تصويب عمل المستشفيات فتبقى على الخط السليم للرسالة التي أنشئت من أجلها.
وللإبقاء على سمو تلك الرسالة كان لا بد من تخلّص المستشفيات من كل ما هو مؤذٍ أو مضر للبيئة وللسكان المحيطين بها، أو لأي متعرّض للضرر الناتج عما يُخلّفه عمل الإستشفاء من مواد ضارّة. فإذا كانت المناجم والمرافق المختلفة ومراكز الصناعات الثقيلة، بدأت تبحث في كيفية تخفيف الضرر الناتج عن عملها حماية للبيئة والإنسان، فكم بالحري المراكز الطبية والإستشفائية التي وُجِدت أصلاً لسلامة الناس لا لأي منفعة أخرى…
ومن هنا نشأت الفكرة السامية للمستشفيات الخضراء، وبدأ مسار التحوّل الذي لن يتوقف قبل الوصول إلى محطة السلامة المنشودة. يقوم مبدأ المستشفيات الخضراء على أن تكون العناية الصحية من دون مضاعفات مضرة للبيئة، وبالتالي للإنسان الذي تعمل العناية الصحية ورسالة المستشفى اصلاً لسلامته. من هنا توسّعت فكرة السلامة الصحّية إلى خارج نطاق المستشفى لتعمل على حماية الأصحّاء في بيوتهم وأعمالهم ومنتزهاتهم، قبل أن يتحوّلوا إلى مرضى، وتضطر إلى معالجتهم على الأسرّة وبالعقاقير والعمليات الجراحية بكلفة مادية أكبر ومعنوية لا تقدّر بثمن.
دوافع وأهداف التحوّل
“المستشفى الأخضر” هو مفهوم بدأ بإعادة تعريف كيفية بناء مرافق الرعاية الصحية لحماية البيئة مع إنقاذ الأرواح البشرية. فمثلاً كلما زادت كمية الطاقة المستهلكة في المستشفى، زاد إطلاق النفايات السامة في البيئة، مما يتسبب في أضرار قد تُعرّض حياة الإنسان لخطر الإصابة بأمراض أخرى والوفاة. لذلك راحت المستشفيات تتحوّل إلى مراكز صحيّة صديقة للبيئة، في مسار طويل ومعقّد ومكلف، لكنه بحسب الخبراء، يبقى أقل تكلفة بكثير مما قد يسببه استمرار النهج السابق من أضرار وتكاليف.
فما الدافع وما الغاية لتحوّل المستشفيات إلى مستشفيات خضراء؟
انطلق مسار تحوّل المستشفيات إلى مبانٍ صديقة للبيئة بدءاً من عرض وإحصاء ما ينتج عن عملية التطبيب من نفايات ومخلفات وآثار مضرّة، ومن ثم معالجتها واحدة واحدة للوصول إلى الهدف المنشود: أي مراكز صحيّة مئة في المئة. وهذا لا يقتصر على تأمين السلامة الجسدية فحسب بل تأمين السلامة النفسية كذلك.
من هنا راح هذا المسار يعمل على التخلص الصحي من المخلفات الطبية والآثار الناجمة عن عملية التشغيل من جهة، وعلى تعديل الممارسات في أمكنة العمل وغرف المرضى ومحيط المستشفى، بما يبعث على الراحة النفسية لدى المريض ولا يبقى هناك ما يؤذى الأصحاء.
ويتركّز التحوّل لبناء مرافق رعاية صحية مستدامة إلى حد كبير على تقليل عبء الكربون في المستشفيات مع ضمان الحفاظ على سلامة شاغليها الموظفين والمرضى.
ومع الوقت والتماس أهمية هذا التحوّل، بدأ المزيد من مديري المستشفيات في إشراك المهندسين المعماريين في دمج المفاهيم الخضراء في تصميم المستشفى. ووفقًا لتقرير صادر عن SBI Energy، ستشهد تجديدات المباني الخضراء زيادة كبيرة ومتسارعة كلما تقدّم الوقت واكتشفت المرافق أكثر أهمية هذا التحوّل.
ولكن لماذا المستشفيات مدعوة قبل سواها إلى التحوّل لمبانٍ خضراء؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التطرق إلى مسألتين أساسيتين: أولاً لأنها تتميّز عن باقي المرافق بكون رسالتها سلامة المجتمع، وثانياً لأن المستشفيات تستخدم مواردَّ أكثر وتُنتج نفايات أكثر من معظم المباني التجارية الأخرى ذات الحجم المماثل. فهي تستهلك مثلاً أكثر من 315 جالونًا من الماء لكل سرير يوميًا، ويستهلك متوسط المستشفى في الولايات المتحدة الأميركية 103.600 وحدة حرارية من الغاز الطبيعي لكل قدم مربع سنويًا. لذلك، تتمثل إحدى ميزات التحوّل الخضراء، في استخدام نظام السباكة منخفض التدفق في محاولة لتوفير ثلاثة ملايين جالون من المياه كل عام لولاية كاليفورنيا، والتي قال العديد من الخبراء إنها قد تتعرض لفترة طويلة من الجفاف. ففي مركز الرعاية الصحية النموذجي، تمثل الإضاءة وتسخين المياه وتدفئة المساحات أكثر من 65٪ من استهلاك الطاقة. لذلك، لا يزال من الضروري لبناء مرافق الرعاية الصحية تضمين دمج التصاميم والمفاهيم الخضراء في العملية لتقليل التأثير على البيئة، وخفض التكاليف التشغيلية، وزيادة كفاءة الطاقة.
ولذلك تستعين إدارات المستشفيات بالمصممين والمهندسين المعماريين وشركات البناء لتحقيق الريادة في تصميم الطاقة والبيئة، والتي تسمى أيضًا LEED وهو نظام تم تطويره من قبل مجلس المباني الخضراء في الولايات المتحدة لتصنيف مبنى واعتماده على أنه “أخضر” استنادًا إلى التصميم والبناء وعمليات التشغيل.
مبادرات لتحقيق الأمان
تشمل التدابير الأساسية المعتمدة للمباني الخضراء استخدام أنظمة الإضاءة الموفرة للطاقة والمعدات الطبية واستخدام أنظمة الطاقة المتجددة المعززة تقنياً. بالإضافة إلى استخدام الطاقة بشكل أكثر كفاءة، تبحث المستشفيات في كيفية إنشاء تصاميم تسمح بمزيد من التعرّض لضوء النهار والتهوية الطبيعية في المكان. فتحسين جودة الهواء يعد عنصرًا أساسيًا في تصميم المستشفى الأخضر. وتشدّد المستشفيات على استكشاف طرق فعالة لتقليل محتوى الهواء من السموم والملوثات في جميع أنحاء المبنى. فعلى سبيل المثال، بدأ مركز كاليفورنيا باسيفيك الطبي (CPMC) اعتماد العديد من ميزات التصميم لتحقيق بيئة عمل خضراء.
بالتوازي بدأت بعض الشركات العالمية تطبيق مبادرة لالتقاط مياه الأمطار من الأسطح واستخدامها لري المساحات الطبيعية المحيطة بالمستشفى، وهو إجراء، كما يقولون، سيوفر 180 ألف جالون من المياه الصالحة للشرب كل عام. بالإضافة إلى ذلك، سيتم استخدام مياه الأمطار المجمّعة أيضًا لتشغيل أبراج التبريد التي يستخدمها المستشفى لنظام تكييف الهواء الخاص به. من أجل كفاءة الطاقة، نفّذ CPMC عددًا من مبادرات التصميم الأخضر لتحقيق استهلاك الطاقة بمستوى أقل بنسبة 14 في المائة من متوسط المستشفى في الولايات المتحدة. تتضمن بعض ميزات التصميم هذه استخدام نوافذ عالية الكفاءة، وأسقف فائقة العزل، واستخدام أجهزة استشعار تعمل تلقائيًا على إطفاء الأنوار أو تشغيلها في الغرفة بحسب الحاجة. بالإضافة إلى ذلك، تمت إعادة تصميم غرف المرضى للسماح بمزيد من التعرّض للضوء الطبيعي والتهوية.
كما تبنّى مستشفى الأطفال في بيتسبرغ، وهو قسم تابع لمركز جامعة بيتسبرغ الطبي، طرقًا لخفض استهلاك الطاقة وتقليل الملوثات البيئية في اثنين من مبانيه التي حصلت من أجلها على شهادة LEEDحيث حققت التحوّل الهيكلي إلى حد كبير باستخدام مواد صديقة للبيئة بدلاً من الأنظمة التقليدية. وقد تضمّن بعض التصاميم الخضراء المعتمدة، أنظمة لمراقبة مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، واستخدام المنتجات الخشبية، والمواد المتجددة في مبنى المختبرات، والمناظر الطبيعية، والتقليل من التلوث الضوئي في الموقع، والقضاء على مركّبات الكربون الهيدروكلورية فلورية (HCFCs) والهالونات، واستخدام مواد البناء المحلية والإقليمية لتقليل عبء النقل. كما تم تعديل العمليات في المستشفى في ضوء المبادرة الخضراء.
تشمل بعض أفضل الممارسات التشغيلية التي بدأت تعتمدها المستشفيات الخضراء لجعلها مستدامة، إستخدام مواد التنظيف الكيميائية غير السامة والمماسح المصنوعة من الألياف الدقيقة، والتوقّف عن استخدام الحلول والأجهزة الطبية المحتوية على الزئبق، واستخدام المنتجات الورقية المصنوعة من مواد معاد تدويرها. وهي تزيد من إنشاء برامج إعادة تدوير النفايات الكيميائية المخبرية للمحاليل السامة، وكذلك للنفايات الورقية والبلاستيكية والمصابيح الكهربائية والبطاريات والكرتون.
فوائد وعوائد
يقوم “مجلس المباني الخضراء العالمي” بتجميع فوائد المباني الخضراء في ثلاث: البيئية والاقتصادية والاجتماعية. وهناك مجموعة متزايدة من الأسباب التي تدعم إنشاء مبادرات المستشفيات الخضراء في تصميم وبناء المراكز الصحيّة. يساعد هذا التصميم الأخضر والمبادرات التشغيلية على نطاق واسع، في تحقيق عدد من الأهداف العالمية بما في ذلك معالجة تغيّر المناخ، ودفع النمو الاقتصادي، وخلق مجتمعات مستدامة.
ووفقًا لتقرير صادر عن المجلس العالمي، أدّت المباني الخضراء في أستراليا التي حصلت على “شهادة النجمة الخضراء” من قبل مجلس المباني الخضراء الأسترالي، إلى انخفاض بنسبة 62٪ في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري مقارنة بالمبنى الأسترالي العادي. أما على المستوى العالمي، فستوفر المباني الخضراء ما يصل إلى 84 جيغا طن من ثاني أكسيد الكربون بحلول العام 2050.
يوفر البناء الأخضر أيضًا الكثير من العوائد الاقتصادية على مستوى العالم وعلى مستوى الدولة وعلى مستوى البناء. تشمل بعض الفوائد توفير التكاليف على فواتير المرافق، وانخفاض تكاليف البناء، وارتفاع قيمة العقارات، وخلق فرص العمل. وكما ورد في تقرير صادر عن شركة Dodge Data & Analytics لاحظ مالكو العقارات المأهولة، أن المباني الخضراء – سواء تم تشييدها حديثًا أو تجديدها – أدت إلى زيادة بنسبة 7 في المائة في قيمة الأصول مقارنة بالمباني التقليدية.
أما من الناحية الاجتماعية، فيقدم المبنى الأخضر عددًا من المزايا لشاغليه. فقد أظهرت الدراسات أن العاملين في المباني الخضراء أبلغوا عن تحسن بنسبة 101 في المائة في الدرجات المعرفية. بالإضافة إلى ذلك، أفاد الموظفون في المباني الخضراء ذات المكاتب جيدة التهوية بأنهم ينامون بمعدل 46 دقيقة إضافية كل ليلة.
ومع تطور الرعاية الصحية واستكشاف الإداريين ومقدمي الخدمات لاستراتيجيات لتعزيز رعاية صحية أفضل وخفض التكاليف الإدارية، يظل بناء أو تجديد المستشفيات باستخدام مبادرات تصميم المباني الخضراء أحد الاستراتيجيات الأساسية، التي لا شك أن لها فوائد هائلة ليس فقط للمستشفى والبيئة المباشرة ولكن للعالم بأسره. وفي هذا السياق لا بد من التطرّق إلى مستشفيات البلدان الخليجية التي يتحوّل القائم منها بسرعة ليكون صديقًا للبيئة والإنسان، ويعتمد ما هو تحت الإنشاء استراتيجيات بناء متطوّرة تلحظ هذا الجانب صحيًّا وجماليًّا وفنيًّا واقتصاديًّا، بحيث باتت تشكِّل نماذج رائدة لما ستكون عليه مفاهيم الصحّة والإستشفاء في المستقبل.
كيف نحقق ذلك؟
لتحقيق هذه النقلة النوعيّة إلى المستشفيات الخضراء وتوفير الصحة والمال معاً، طوّرت المستشفيات في أساليب عملها وليس فقط في هندستها أو معالجة استهلاكها. ففي بيرّو مثلاً يتلقى أكثر من 40 مرفقًا للرعاية الصحية تدريباً للانضمام إلى شبكة المستشفيات الخضراء والصحية العالمية. وفي جهد مشترك مع المديرية العامة لإدارة مخاطر الكوارث والدفاع الوطني في الصحة (DIGERD) التابعة لوزارة الصحة في بيرو، بدأت 41 مؤسسة صحية عملية الانضمام إلى الشبكة بهدف خفض انبعاثات غازات الإحتباس الحراري وتقليل تأثيرها البيئي.
وخلال ثلاثة أيام قدّم “فريق الرعاية الصحية بدون ضرر” Health Care Without Harm في أميركا اللاتينية معلومات حول الأدوات والموارد المختلفة التي يمكنهم الوصول إليها، والمبادرات التي يمكنهم الانضمام إليها كجزء من العملية التحويلية التي يقومون بها. ويؤكد مسؤولو المستشفيات المشاركة أن تعليم ومشاركة العاملين في هذا القطاع أثبتت أنها جزء لا يتجزأ من النجاح.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا البرنامج التدريبي يسعى إلى تقديم المساعدة الفنية لحكومة بيرو في الوفاء بالتزاماتها في إزالة الكربون بموجب برنامج الصحة COP26.
كذلك تم الإتفاق بين وزارة الصحة والحماية الاجتماعية في كولومبيا ومنظمة “الرعاية الصحية بدون ضرر” لتعزيز إزالة الكربون من النظام الصحي الكولومبي.
وبعد توقيع مذكرة التفاهم بهذا الخصوص، سيعملون على مشروع لتقدير البصمة الكربونية للمرافق الصحية. وأعلنت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية في كولومبيا ومنظمة “الرعاية الصحية بدون ضرر”، عن توقيع مذكرة تفاهم لتنفيذ مشروع يسمح بتقدير البصمة المناخية للنظام الصحي الوطني الكولومبي على مستوى المنشأة.
يتضمّن المشروع ثلاثة محاور رئيسية هي:
- تحديد عينة تمثيلية من المستشفيات والمراكز الصحية التابعة للنظام الصحي الكولومبي.
- تدريب فرق تلك المؤسسات على استخدام أداة فحص تأثير المناخ التي طورتها “الرعاية الصحية بدون ضرر”.
- الدعم الفني حتى تتمكن المؤسسات التي تتألّف منها العيّنة من تحديد حجم وتكوين بصمتها المناخية.
مع تحليل البيانات التي تم الحصول عليها من هذا التمرين، تم الحصول على تقدير لانبعاثات غازات الإحتباس الحراري من قطاع الصحة الكولومبي على المستوى الوطني. وبناءً على هذه النتائج، سيتم إعداد سلسلة من التوصيات المحدّدة، والتي ستكون بمثابة مدخلات لعملية إعداد خطة إدارة تغيّر المناخ القطاعية الشاملة (PIGCCS) لقطاع الصحة الكولومبي.
والجدير ذكره أنه مع هذا المشروع، ستصبح كولومبيا أول دولة في أميركا الجنوبية تنفذ تمرينًا شاملاً لتقدير البصمة الكربونية لنظامها الصحي الوطني، بما في ذلك المؤسسات العامة والخاصة.
وكانت أكثر من 50 دولة من مناطق مختلفة التزمت تطوير أنظمة صحية قادرة على التكيف مع المناخ ومستدامة ومنخفضة الكربون. ويجري العمل لتصميم جدول للأنشطة والمضي قدمًا في تنفيذ مشروع تحوّل المستشفيات إلى صديقة للبيئة وأكثر حماية للإنسان. ومن المتوقع أن تظهر نتائجه في أوائل العام 2023.
ويؤكد جوش كارلينر، المدير الدولي لبرنامج واستراتيجية الرعاية الصحية بدون ضرر، أنه “من خلال إنجاح هذا المشروع، يمكننا المساعدة في تمهيد الطريق للحكومات الوطنية ودون الوطنية الأخرى للقيام بنفس الشيء”.
وهكذا يتبيّن يوما بعد يوم كم هي عظيمة عملية تحوّل المستشفيات إلى مبانٍ خضراء وكم بدأت تتسارع حول العالم بعدما لمس الجميع أهميتها الإنسانية وكذلك المادّية على المؤسسات الصحية بعينها وعلى الأفراد كما على العالم بأسره.