المستشفيات الخضراء تُنقِذ الكوكب
المستشفيات الخضراء تُنقِذ الكوكب
دورٌ رائد للقطاع الصحي
بدأت القطاعات الصحيّة منذ سنوات نقلة نوعية في مجال حماية البيئة والتحوّل إلى مؤسسات خضراء بالكامل. وهي تواصل تطوير هذا النهج، حيث برز مؤخراً ما عُرف بـ“العمل من خلال مهمة التعافي”. فالرعاية الصحية تتمتع بفرصة لاستخدام تأثيرها الأخلاقي والاقتصادي والسياسي لتكون رائدة في مجال المناخ. وهناك اليوم أكثر من 50 مؤسسة رعاية صحية تمثل مصالح أكثر من 14000 مستشفى ومركزاً صحيّاً في 24 دولة انخرطت في السباق إلى “الصفر تلوث” في مجال الرعاية الصحية بدون ضرر. وشكّل ذلك مؤشراً رائداً على ما تحققه المستشفيات الصديقة للبيئة من تقدّم ومن تحوّل إيجابي.
بات من الثابت علمياً أن تغيّر المناخ يسبب بالفعل أو يؤدي إلى تفاقم مجموعة واسعة من المشاكل الصحية في جميع أنحاء العالم. إذ مع ارتفاع درجة حرارة الأرض، تنتشر الأمراض المعدية مثل الملاريا وحمّى الضنك وغيرهما، مما يهدد بإجهاض المكاسب الصحية التي تم تحقيقها بشق الأنفس في أجزاء كثيرة من الكوكب. كما أن تزايد شدة موجات الحر وعددها، يؤديان إلى وفاة عشرات الآلاف وتفاقم الربو وأمراض القلب وضربة الشمس. فيما تتسبب العواصف الشديدة والجفاف والحرائق والفيضانات المتزايدة بالإضرار بصحة الإنسان وتعريض النظم الصحية المرهَقة وغير المهيأة للخطر.
لذلك، وفي إطار مواجهة تحدي المناخ، تعهدت قيادات معظم المستشفيات والمراكز الصحية والأنظمة الصحية في جميع أنحاء العالم، بالتزام المعايير العالمية لحماية المناخ وتجنيب البيئة ما يمكن أن يسببه العمل الإستشفائي من أذى محتمل.
فظاهرة تغيّر المناخ شكّلت حاجة ملحة لمعالجتها في العقود الأخيرة، ما شكّل أكبر تهديد للصحة العامة في القرن الحادي والعشرين، كما قالت لجنة لانسيت في عام 2009. إذ منذ ذلك الحين راحت أزمة المناخ تتعمّق أكثر فأكثر، وأصبح العلم غير قابل للدحض بشكل متزايد، مما زاد من الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات بنّاءة.
الآثار الصحيّة للتلوّث البيئي
يؤكد الباحثون أنه إذا بقيت انبعاثات غازات الإحتباس الحراري من دون رادع، فسيكون لتغيّر المناخ في غضون عقود، آثار شديدة وواسعة الانتشار. وبالتالي يحتمل أن يؤدي إلى صحة عامة لا يمكن السيطرة عليها. فانبعاثات الوقود الأحفوري هي مصدر مشاكل صحية محلية كبيرة. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، هو يقتل أكثر من أربعة ملايين شخص كل عام. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2018، أصدرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) تقريرًا مثيرًا للقلق وجد أن “تجنّب أسوأ آثار تغيّر المناخ، يتطلب الوصول سريعًا إلى تغييرات غير مسبوقة في جميع جوانب المجتمع”.
مثل هذا التغيير يشمل التغيير في هندسة المباني وإدارتها، وهذا ما قامت به المستشفيات وما تزال تواصل تحوّلها الرائع إلى مبان ومؤسسات صديقة للبيئة حماية لمرضاها وللمجتمع الأبعد من أية تداعيات صحية غير محمودة. وتهدف استراتيجية التحوّل إلى تخفيض صافي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي يسببها الإنسان بنحو 45 في المئة من مستويات العام 2010 بحلول العام 2030، لتصل إلى “صافي صفر” حوالى العام 2050.
مثل هذا الانتقال إلى اقتصاد خالٍ من الانبعاثات سيعود بالفائدة على المناخ والصحة العامة. من هنا يرى الخبراء أن على الرعاية الصحية، التي تعادل بصمتها المناخية 4.4 في المئة من صافي الانبعاثات العالمية، ممارسة الوقاية الأولية ومواءمة عملياتها وسلاسل التوريد مع طموح اتفاقية باريس الداعية إلى خفض الإنبعاثات.
ونظراً إلى أن موفري الرعاية الصحية – كالمستشفيات والأنظمة الصحية والمؤسسات الصحية الحكومية – عليهم تقليل بصمتهم المناخية والتحرك نحو انبعاثات صفرية. فقد بادروا إلى إعداد القوى العاملة والبنية التحتية لديهم. وبالتعاون مع المجتمعات العاملين فيها، سعوا إلى الاستجابة والتكيّف بمرونة مع تطور أزمة المناخ. وأكثر من ذلك راحت المستشفيات والمراكز الصحيّة تلعب دورًا قياديًا في مجتمعاتها الأوسع نطاقاً، والدعوة إلى الانتقال إلى اقتصاد صحي خال من الانبعاثات، وهي تواصل السعي لتحقيق أهداف منظمة الصحة العالمية.
جوهر التحوّل البيئي-الصحي
كيف يتم هذا التحوّل البيئي-الصحي وما هو جوهره؟
يمكن للرعاية الصحية أن تساعد في بناء مستقبل بمستشفيات صحية وأشخاص أصحاء من خلال تنفيذ حلول مناخية تحويلية تقلل التلوث الضار وتعزز المرونة. يعمل تحدي التزام الرعاية الصحية بالشروط البيئية على بناء تحالفات محلية أو عالمية صديقة للبيئة وساعية إلى هذا التحوّل. وفي طليعتها مؤسسات الرعاية الصحية. ومن هنا انطلقت مبادرة “الرعاية الصحية بدون ضرر”، حيث يُوجِب هذا التحدي على مؤسسات الرعاية الصحية من العيادات الصغيرة إلى المستشفيات والأنظمة الصحية الكبيرة إلى وزارات الصحة، الالتزام بإجراءات مناخية فعالة مع بناء تأثير جماعي عابر للحدود.
وتعمل حملة “الرعاية الصحية بدون ضرر” المدعومة من الأمم المتحدة، على حشد الجهات الفاعلة غير الحكومية لاتخاذ إجراءات صارمة وفورية للتحوّل إلى مؤسسات خضراء، وتحقيق عالم خالٍ من الكربون أكثر صحة وعدالة. فتحت قيادة رواد المناخ رفيعي المستوى للعمل المناخي، نايجل توبينج وغونزالو مونيوز، تحشد Race To Zero الجهات الفاعلة خارج الحكومات الوطنية للانضمام إلى التحالف الصديق للبيئة. وحتى الآن، انضمت أكثر من 50 مؤسسة رعاية صحية تمثل مصالح أكثر من 14000 مستشفى ومركز صحي في 23 دولة إلى Race to Zero مع Health Care Without Harm.
وبصفتها جهات تعنى بالصحة والسلامة، فإنها تعلم بأن التأهب أمر ضروري لمكافحة أزمة المناخ، وأن الطريق إلى التعافي يبدأ بالحلول المناخية التحويلية. ولذلك فقد بادرت المستشفيات إلى تلقف هذه المهمة وتحوّلت إلى مستشفيات خضراء. ومن خلال الانضمام إلى Race to Zero، تحصل مؤسسات الرعاية الصحية على عضوية في Health Care Climate Challenge والمستشفيات العالمية الخضراء والصحية. وهذه الشبكات توفّر إمكانية الوصول إلى مجموعة من الأدوات والموارد والأشخاص لمساعدة مؤسسات الرعاية الصحية في الحد من انبعاثات الكربون، وتنفيذ مشاريع وبرامج الاستدامة الناجحة.
المستشفيات وأزمة المناخ
معلوم أن العديد من المستشفيات في معظم أنحاء العالم هي مستهلك رئيسي للطاقة، وبالتالي يمكنها إجراء تخفيضات كبيرة في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويمكنها الإعتماد على الطاقة المتجددة وغيرها من الاستراتيجيات الذكية للمناخ لتعزيز الوصول إلى الرعاية الصحية والنتائج الصحية الأفضل.
وقد تعهد العديد من مؤسسات الرعاية الصحية بقيادة المسيرة نحو رعاية صحية خالية من الانبعاثات والملوثات، من خلال تحديد أهداف واضحة وعملية لذلك. وهي تعمل على تنفيذ تدابير كفاءة الطاقة عبر نشر طاقة متجددة نظيفة لتشغيل مبانيها. وأيضاً اعتماد سياسات شراء هادفة، والتخلص العلمي السليم من النفايات، وغيرها من التدابير.
ومن الإجراءات التي التزمت بها المؤسسات الصحيّة في سبيل التحول إلى مؤسسات خضراء، بناء المرونة للتكيّف مع أزمة المناخ والاستجابة لمتطلبات حلّها. فمن أجل تأمين الخدمة الأفضل لمجتمعاتها، كان على المستشفيات والمراكز الصحية أن تظل عاملة أثناء الظواهر المناخية الشديدة وبعدها، وأن تكون مجهّزة للاستجابة للاحتياجات الصحية لمجتمعها المباشر، والاستعداد لتغيير أنماط المرض. فمثلا هي تتعهّد بالاستعداد لتأثيرات تغيّر المناخ من خلال أن تصبح أكثر مرونة في مواجهة تأثيرات المناخ وتوجيه مجتمعاتها ودعمها للقيام بالمثل. وتعمل المستشفيات الخضراء على تنفيذ سلسلة من التدابير لضمان أن بنيتها التحتية المادية وموظفيها ومجتمعاتها على استعداد للتكيّف الفوري مع ظواهر المناخ المتطرفة، والآثار طويلة المدى لأنماط المرض المتغيرة، فضلاً عن التأثيرات المناخية الأخرى.
كما عملت المستشفيات الخضراء والنظم الصحية عموما على تمهيد الطريق لمناخ صحي. وهذه فلسفة راقية سائدة حالياً ولم تكن معتمدة من قبل. فنظرًا لأن مقدمي الرعاية الصحية يحترمون المجتمعات المحلية والحكومات والشركات، فإنهم يلتزمون توفير القيادة في مجتمعاتهم من أجل مناخ صحي. وهم يتعهّدون القيام بذلك من خلال تثقيف المتخصصين في الرعاية الصحية والعاملين بالمستشفيات، وكذلك العمل مع المجتمعات التي تتواجد فيها المؤسسات الصحيّة، في ما يخص التحديات والحلول المتعلقة بالمناخ والصحة.
وهم يلتزمون أيضًا بتشجيع السياسات العامة والتنمية الاقتصادية واستراتيجيات الاستثمار التي تنقل مجتمعاتهم بعيدًا عن الاعتماد على الوقود الأحفوري ويعززون بدلاً من ذلك مستقبلًا صحيًا للطاقة، عملاً برسالتهم حماية الصحة المحلية والعالمية من تأثيرات بيئية غير صحّية، سواء أكانت تلك التأثيرات ناتجة عن عمل المؤسسات الصحية أم عن نشاطات وعوامل أخرى.
فمن خلال الانتقال إلى أنظمة صحية منخفضة الكربون أو معدومة الانبعاثات، يمكن للرعاية الصحية أن تخفف من تأثيرها على المناخ، وتوفر المال وأن تكون قدوة يحتذى بها. وبهدف أن تصبح أكثر مرونة، تعمل مؤسسات الرعاية الصحية على تبديل أساليب نشاطها بحيث يصبح بالكامل صديقا للبيئة، كما تعمل على توعية المجتمع المحلي ومساعدته على اعتماد ممارسات بيئية تحمي صحته كأفراد أو كجماعات. ومن خلال توفير هذه القيادة المجتمعية، يمكن للمستشفيات والمؤسسات الصحية عموماً أن تساعد في صياغة رؤية لمستقبل أكثر إشراقاً لأشخاص أصحاء يعيشون على كوكب صحي.
وفي سياق هذه الإستراتيجية، وما تصفه المستشفيات بـ”المنعطف الحاسم”، يؤكد قادة القطاع الصحّي أنه حان الوقت بإلحاح للعمل على حماية الصحة العامة من تغير المناخ، عبر حماية الكوكب من التأثيرات المؤذية. ويعلنون أن هذا المسار انطلق بقوة ولن يتوقف كونه المسار المحدِّد لاتجاهات العالم بين الحياة أو الموت، الإستمرار أو الفناء، وهذه تمثّل صلب رسالة المؤسسات الصحيّة ودورها الرائد.