القطاع الصحي في لبنان
القطاع الصحي في لبنان
إستعادة المبادرة وعودة الحياة
تعرّض القطاع الصحي في لبنان لنوبة ضيق حادة بنتيجة تأزم الوضع الإقتصادي في البلاد وتراجع القدرة الشرائية للعملة الوطنية. ومن كانت لديه أموال بالنقد الأجنبي ما عاد قادراً على استخدامها بسبب الأزمة المصرفية. كما أن الوافدين الأجانب طلباً للعلاج تراجعت أعدادهم مع تراجع أعداد الوافدين عموماً إلى لبنان بسبب التوترات التي زادتها فترة كورونا اشتداداً على القطاع الصحي والإستشفائي في البلاد.
هذا الواقع أفقد المستشفيات أبرز عنصرين ضروريين لنهوضها وتطورها وهما العنصر البشري الكفوء الذي غادرها إلى الخارج بحثاً عن مردود أفضل، والأموال الكافية التي تحتاجها المستشفيات للتحديث والتوسّع. لكن على الرغم من ذلك، شقّت طريقها إلى الحياة من جديد ونفضت عنها رماد الأزمة كطائر الفينيق، وخرجت من العناية الفائقة إلى العناية بمرضاها سعياً لتبوؤ مركزها الرائد على صعيد المنطقة.
ليس سهلاً أن تشق المستشفيات اللبنانية طريقها من جديد إلى النهوض الناجح، وسط منافسة شديدة في المنطقة وإمكانيات ذاتية ضعيفة وغياب أي مساندة من الدولة اللبنانية التي باتت عاجزة عن تأمين أبسط المتطلبات وسط الشلل الذي أصابها وتسبب بالعدوى لسائر القطاعات والمؤسسات، ولا سيما الصحية منها.
ولكن في المقابل، ليس غريباً أن ينجح القطاع الإستشفائي اللبناني وسط الصعوبات وهو الذي تمرّس في مواجهة الأزمات وتحدّي النكبات وبلسمة جراح الآخرين، فكم بالحري جراحه التي عمّقتها الظروف القاهرة وزادها تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب ألماً ونزفاً خصوصاً لمستشفيات العاصمة. واليوم يشهد القطاع ملامح نهوضه الثابت ويشق طريقه إلى الحياة النابضة ويرسم مسار العودة إلى الريادة مثالاً للتعافي من الصعاب مهما كانت الشدائد كبيرة.
بين الصعوبات والنجاحات
يعتمد القطاع الإستشفائي اللبناني على المستشفيات الخاصة في شكل أساسي وعلى المبادرة الفردية للتطور والتوسع، متَّكئاً إلى تاريخ ساحق من التراكم العلمي والمهني وإلى مهارات فريقه الطبي والتمريضي والإداري التي لا تُجارى. وفي صلب مهامه كانت السياحة العلاجية
تشكل عاملاً أساسيّاً وحيويّاً نظراً للمميزات التي لطالما تمتّع بها لبنان كمقصد سياحي عريق وموقع مميّز يجمع بين قربه من الغرب كمنهل لأحدث الإبتكارات العلمية ومن الشرق كرافد لطالبي العلاج، وكفاءة عالية في الضيافة وحسن الإدارة وقدرة على ابتكار الجديد.
وفيما تعرّضت القطاعات الصحية والمستشفيات حول العالم وفي بلدان كبيرة ومتقدمة لأزمات حادة بسبب جائحة كورونا، تعرّض هذا القطاع في لبنان لأزمات إضافية كانت كافية لشل أي قطاع في أي مكان من العالم. إلا أن روح المبادرة اللبنانية كانت أقوى وخبرات التعامل مع الظروف الصعبة التي راكمتها القطاعات اللبنانية والأفراد خلال العقود الأربعة الأخيرة كانت كافية لتجنيب المستشفيات السقوط والقطاع الصحي عموماً فقدان المبادرة والقدرة على النهوض من جديد.
وفي عرض سريع لما تعرّض له القطاع من أزمات وشدائد، لا بد من الإشارة إلى أنه بلغ في السنوات السابقة حد فقدان الأوكسيجين في المراكز الطبية، وندرة الأدوية الضرورية لعلاجات مزمنة وحادة، وغياب كامل للكهرباء العامة وكهرباء الإشتراك، الأمر الذي دفعها إلى الإعتماد على مولداتها الخاصة ما رتّب عليها تكلفة تشغيل عالية جداً وفي بعض الأحيان إلى العجز عن تأمين المازوت لتشغيلها فوصل مرضى الحالات الحرجة إلى حافة الموت.
في المقابل دفعت أزمة انهيار القدرة الشرائية للعملة اللبنانية الطواقم الطبية إلى الهجرة. ولم يكن ذلك صعباً وقاسياً فقط بسبب الأعداد الكبيرة المغادرة وكفاءاتها العالية، إنما أيضا بسبب أن الفئة المغادرة هي من متوسطي العمر الذين يشكلون الحلقة الضرورية والعنصر الأساس لإدخال المتخرجين الجدد إلى حلقة العمل الناجح. فالفئة المتقدمة في العمر لها الخبرة الكبيرة لكنها لا تقوم بهذا الدور، والفئة الشابة من المتخرجين حديثا والمتدربين توفرها الكليات الطبية العريقة لكنها لا تتمتّع بالخبرة. من هنا كان القطاع في أزمة حقيقية على مدى سنوات، لكنه تمكّن من الخروج منها وقد بدأ حقيقة مسيرة عودته إلى ريادته السابقة ودوره المعروف ورسالته المعهودة.
مساعٍ واتصالات وحلول
يقول نقيب المستشفيات الخاصة في لبنان سليمان هارون في حديث خاص لمجلة “المستشفى العربي” إن “المستشفيات الخاصة تعمل جاهدة لتخطي الأزمة التي بدأت فعليا منذ العام 2019 وهي أساسا أزمة مالية، وكما أصبح معلوما فإن انهيار الوضعين الإقتصادي والمالي في لبنان أثر بصورة مباشرة على المستشفيات. وكانت الصعوبة الأكبر في هجرة الطواقم البشرية من أطباء وممرضات وممرضين وإخصائيين”.
ويشير إلى أن “هذه المستشفيات تبذل اليوم جهوداً كبيرة ومثمرة، أحياناً ننجح وأحيانا تظهر عوائق، ولكن الجهود مستمرة والأمل كبير. وعندما تتحسّن ظروف البلد فإن الأكثرية الساحقة من الطواقم الطبية المهاجرة ستعود إلى لبنان ما يعطي المستشفيات الأوكسجين الضروري لاستعادة النشاط. ويتم التواصل معهم والتنسيق للخروج بحلول لكل العوائق والمشاكل القائمة”.
ويضيف: “بالنسبة لموقع لبنان كمستشفى الشرق، وبعيداً عن التسميات، لبنان يبقى منارة في هذا الشرق بما يتعلق بالطبابة والإستشفاء. ولا بد من الإشارة إلى أن القطاع الطبي اللبناني يختزن خبرة تراكمية منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث بدأ القطاع الإستشفائي بافتتاح كليات للطب بالتوازي مع افتتاح المستشفيات. وكانت كبرى الجامعات العالمية أتت إلى لبنان وفتحت جامعات، ومنها كلّيتا الطب في الجامعة الأميركية وفي جامعة القديس يوسف”.
ويؤكد هارون أن “هذا لا يذهب سدىً بين ليلة وضحاها. يمكن أن تنشأ صعوبات بنتيجة بعض الأوضاع لكن هذا التراكم العلمي لا يندثر. ومع أن الطواقم المتخصصة المهاجرة هي خسارة للقطاع الإستشفائي في لبنان، لكن في المقابل فإن وجود كليات طب عريقة وذات مستوى عالٍ يواصل رفد القطاع بمتخرجين جدد، ما يسمح لنا بالصمود بانتظار انتهاء الأزمة. وهذا الجانب لا يدعو للقلق. لكن من الناحية التمويلية فطبعا علينا انتظار بعض الوقت للّحاق بركب القطاعات الصحية التي تتمتع بدعم مالي كبير يخولها الحصول على أفضل المعدات وأحدثها، كما في الخليج مثلاً، والتي لا يمكن أن ننافسها على هذا الصعيد، علما أننا لسنا في منافسة معها ولا هذا هدفنا أصلاً، بل هدفنا أن نكون مرجعية علمية للمنطقة بأسرها. وأعتقد أننا سنبقى كذلك طالما لدينا الجامعات ذات المستوى العالي والعنصر البشري الطموح والكفوء”. أما بالنسبة إلى السياحة العلاجية فيقول “إن التواصل قائم مع الدول التي نجد فيها فرصة لذلك والتي يرغب مواطنوها في التوجه للعلاج في لبنان، ومن هذه الدول العراق وليبيا. طبعا المنافسة على هذا الصعيد عالية جدا، كون معظم دول المنطقة تعمل على تنشيط السياحة العلاجية لديها، ومنها من تتمتّع بكفاءات وقدرات عالية على هذا الصعيد، كما أن هناك دولاً قد تكون كلفة مجمل الرحلة العلاجية إليها أرخص من لبنان”.
ويلفت إلى أن “دول الخليج بات لديها البنية التحتية الكاملة لقطاع إستشفائي مزدهر وبالتالي باتت السياحة العلاجية إلى لبنان تتطلب مجهوداً كبيراً للعودة إلى ما كانت عليه في الحقبات السابقة عندما كان كل الأشقاء العرب من مختلف الدول لا سيما الخليجية منها يقصدون لبنان طلبا للعلاج. وكذلك فإن الأردن شهد تقدماً كبيراً على هذا الصعيد، لذلك فإن هذا النوع من الإستشفاء بات في منافسة شديدة”.
مجدداً إلى الضوء والحياة
هل تخطت المستشفيات اللبنانية تلك المرحلة الصعبة واستعادت المبادرة في طريقها إلى مستقبل مشرق لها ولطالبي العلاج سواء من الداخل أو من الخارج؟
كل المؤشّرات تدل على أنها تخطتها فعلاً. فالعديد من العوائق تم تذليلها ومنها مثلاً استقرار السوق لناحية سعر الصرف ولو نسبياً وعلى مستوى مرتفع في مقابل العملة الوطنية، وعودة ساعات التغذية بالكهرباء ما يوفر على إداراتها قسماً كبيراً من الإنفاق التشغيلي. والأهم أنها تخطّت ولو نسبياً وجزئياً مرحلة الفراغ في الطاقم الطبي سواء ببعض من عادوا من الخارج أو بمبتدئين سمحت لهم السنوات الماضية بالتمرّس في المهنة وكسب الخبرات والمهارات الطبية الكافية. بالتوازي فإن الهيئات الضامنة لا سيما شركات التأمين استعادت هي الأخرى المبادرة بعد الصدمة وعادت إلى تغطية المضمونين في شكل منتظم ما يؤمّن للمستشفيات تمويلاً هي في أمسّ الحاجة إليه.
على الصعيد الإداري تم القيام ببعض التبديلات وسد الفراغات لإعادة عمل الإدارة بالمستوى والكفاءة الّلتين كانت عليهما قبل الأزمة. وعلى المستوى التمريضي عمدت المستشفيات إلى منح حوافز للعناصر التمريضية ما ساعدها على إعادة تشكيل الفرق في شكل لا يترك نقصاً أو تقصيراً في الخدمة المتوجب تقديمها للمرضى.
أما على المستوى الطبي والذي ما يزال يتطلب مزيداً من الأطباء تعويضاً عمّن غادروا إلى الخارج، لكن هذا الأمر تجري معالجته وقد تلقّفت المستشفيات الأمر وتعالجه بالطريقة المناسبة. حتى أن الأدوية والأمصال والمستحضرات الطبية كلّها عادت مؤمّنة بالقدر اللازم. وقد أدّت كل هذه الجهود والنتائج المسجّلة إلى تحقيق نقلة نوعية أخرجت القطاع الصحي اللبناني إلى دائرة الضوء وسكة التقدم من جديد.
ووفقًا لدراسات قام بها البنك الدولي، فإن قطاع السياحة العلاجية يصل إلى حوالى 40 مليار دولار في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك 10 مليارات دولار لمنطقة الشرق الأوسط ولبنان، وتمثل الجراحة التجميلية أكثر من 70 بالمئة من السياحة العلاجية فيه. ولطالما كان يُعتبَر منصة إقليمية للرعاية الطبية. ومعلوم أن لبنان، أطباء ومستشفيات وخبرات، يتميّز في هذا الجانب من السياحة العلاجية المتمثّل بالجراحات التجميلية.
وقد تطوّرت جراحات التجميل في لبنان، واستثمرت المراكز الطبية الخاصة بكثافة في مراكز التجميل الخاصة التي تتنافس على مستوى العالم. كما يتمتع الأطباء في لبنان بالحس الشرقي من الجمال، والذي يساعد طالب العلاج العربي للوصول إلى النتيجة المرجوة على وجه التحديد. ومع أن التكلفة لم تكن منخفضة في شكل تنافسي قبل سنوات من بداية الأزمة، إلا أنها اليوم باتت تُعتبَر مقبولة في ظل المنافسة الحادة على هذا الصعيد.
بات معروفاً عن القطاعات اللبنانية أنها لا تموت مهما تعاظمت الصعاب وكثرت المهالك. وإذا كان هذا الواقع ينطبق على سائر النشاطات في لبنان فكم بالحري على النشاط الطبي الإستشفائي الذي يحترف البحث عن الحياة وإزالة الآلام وتضميد الجراح وفتح الطريق إلى التعافي.. وهذا بالضبط ما قام به وما زال يتابع العلاج وإلى السلامة والنهوض والمنافسة من جديد!