الصحة العربية والأزمات
الصحة العربية والأزمات
يمر العالم بتغيرات بيئية ومناخية وصحية وصراعات ترتّبت عليها ازمات صحية متتالية بدءا بالكورونا في نهاية العام 2019 الذي تحول لجائحة بداية العام 2020 وتطورت الأزمات الصحية مع ما طرأ على الفيروس من تحورات متعددة.
مما فاقم من الازمات الصحية هو غياب التنسيق بين الدول وعدم قدرة معظم الأنظمة الصحية على الاستجابة السريعة لتلك الأزمات، وعدم مرونتها في التجاوب للخطط والسيناريوهات العملية والعلمية في التعامل مع مثل هذه الأزمات ومع التجربة المريرة التي عانى منها معظم الشعوب والدول صحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا التي لا زالت تعاني من تبعاتها ومع استمرار تفشي فيروسات اخرى متعددة آخرها جدري القردة.
غياب المعلومات الحقيقية وغياب الشفافية وعدم قدرة منظمة الصحة العالمية في حينها في تفسير الأحداث ومعرفة أسبابها وأصلها ومصادرها ونشأتها وطبيعتها وطرق انتقالها وطرق الوقاية منها، فكانت المنظمة تتعامل مع الأحداث بردّة الفعل لأنها لا تملك المختبرات ولا مصانع الأدوية ولا مراكز الأبحاث وليس لها سلطة الحصول على المعلومات والبيانات الا وفق رغبات مصادرها، حيث اتضح أن المنظمة لا تملك الإمكانيات الهائلة التي تؤهلها لدعم الأنظمة الصحية الهشة والضعيفة والدول النامية والفقيرة والتي معظمها تتعثر في سداد اشتراكاتها والتي تشكل غالبية سكان الأرض.
حتى التحالف الدولي الذي تأسس للغرض لم يكن للمنظمة أي سلطة عليه .
وعانت الشعوب والدول من التمييز وعدم العدالة في توزيع أدوات الحماية واللقاحات وغياب المعلومات الحقيقية مع عدم دعم الأنظمة الصحية التي تعاني من النقص الحاد في السعة السريرية وأجهزة التنفس والأوكسجين والأدوية والكوادر المدربة.
كل هذه الأزمات كانت خسائرها كبيرة في الأرواح التي كانت بالملايين وانهارت اقتصادات دول كثيرة وخصوصا الدول ذات الدخل المحدود والتي تعاني من البطالة ويعتمد جل شعوبها على العمل اليومي أو الموسمي أو الأعمال الحرفية أو الإنتاجية والتي تأثرت بشكل مباشر بالإقفال وبالإجراءات الاحترازية التي اتخذت في اغلبها على عجل بدون دراسات معمقة حقيقية أو مبنية على براهين موثوقة وحتى الدول الغنية والتي اتخذت تدابير صارمة لم تكن قادرة على تعويض الخسائر الاقتصادية. ولازالت معظمها تعاني الى يومنا هذا.
من التجربة، اتضح أن الدول القادرة ماليا وعلميا وبشريًا استطاعت أن تتعامل مع الجوائح وآثارها بمهنية عالية وأدارت الأزمات الصحية والإنسانية والاقتصادية والاجتماعية باقتدار فمنها من استطاع إقامة مستشفيات ميدانية في أيام معدودة تستوعب عشرات الآلاف من المرضى، ومنها من استطاع في أشهر قليلة صناعة اللقاحات بأنواعها وبالكميات المطلوبة، ومنها من استطاع في وقت قصير ان يقوم بتمنيع غالبية شعوبها وقلة من الدول احتكرت المعرفة والمعلومات وباقي سكان الأرض جابهوا الأزمات بالعين البصيرة واليد القصيرة وعناية الخالق وحدها من أنقذت المليارات من البشرية .
بالعودة الى دورات موجات الانتشار والتخبط الذي صاحبها من تجارب بروتوكولات ما أنزل الله بها من سلطان استخدمت أنواع كثيرة من الأدوية ويقال في حينها أنها الناجعة وأسابيع قليلة يتم الاعلان على عدم نجاعتها أو مدى خطورتها، ورؤساء دول سوقت لبعضها رغبة في طمأنة شعوبها أو دعاية لما تملكه من إمكانيات علمية وطبية وصناعية وبآت معظمها بالفشل وعدم نجاعتها بما في ذلك بعض اللقاحات التي هي الآن طوق النجاة الوحيد لحماية الشعوب لازالت بعضها تخضع للدارسات لما لها من آثار جانبية منها معلوم الآن ويجري التعامل معها ومنها لا نستطيع التنبؤ به الا بعد مرور زمن كافي والخضوع لمزيد من الأبحاث وهذه طبيعة التعامل مع الأحداث الطارئة. فكل الحلول تخضع لقوانين الطوارئ ومنها الترخيص للأدوية واللقاحات هذا كله طبيعي وعانته البشرية في مسيرة حياتها ولكل مرحلة ظروفها وإمكانياتها وقدراتها المادية والثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية والبيئية والمناخية ولكل شعوب ثقافات مختلفةً وقدرات مختلفة ونتيجة للتهديدات الوبائية والمرضية المتتالية التي يتعرض لها العالم وجب على كل دول وشعوب ألعالم التكاثف والتعاون في سبيل تحقيق ألأمن والأمان الصحي لشعوب الأرض وحماية الأجيال من الأمراض والاوبئة وعلى الأقاليم ودول الجوار تسخير جميع الإمكانيات المتاحة والتنسيق فيما بينهم بما يضمن توحيد كافة الجهود لسرعة إحتواء الأوبئة وإنحسار الإنتشار وتقليل الخسائر البشرية والمادية.
لهذا وللتجربة القاسية التي مرت بها الشعوب والدول وجب على الدول العربية الإسراع بتسخير كل الإمكانيات المتاحة والحمدلله يزخر العالم العربي بقوة بشرية شابة وقوية ويتمتع العالم العربي بإمكانيات علمية متقدمة ويمتلك قوةً أقتصادية كبيرة في مجموعه واستطاعت معظم الدول العربية أن تتعامل مع الأزمات الصحية الأخيرة باقتدار وفق المتاح من إمكانيات.
ولو كان بينهم تنسيق قوي وتعاون حقيقي لكانت الأوضاع بالتأكيد أفضل بكثير؛ ولهذا على *الجامعة العربية* والجامعات العربية ووزارات الصحة والبيئة والزراعة وغيرها من الهيئات والمؤسسات والمراكز الطبية والصحية وذوي الإختصاص أن تسارع بتوحيد الجهود وتسخير كل الإمكانيات لوضع السياسات والخطط والبرامج والإستراتيجيات وإجراءات العمل ووضع البروتوكولات الوقائية والتشخيصية والعلاجية والتأهيلية وتوحيد التشريعات والقوانين التي تحقق الحماية في كل الظروف الطارئة والاستثنائية وعليهم جميعا التكاثف لوضع آليات وبرامج الإنذار المبكر وبرامج وآليات التقصي والترصد وتوحيد منصات المعلومات والبيانات العلمية الصحيحة والموثوقة وتوحيد جهود البحوث والدراسات العلمية ووضع برامج موحدة للإصلاح الشامل للأنظمة الصحية بما يجعلها قادرة على الاستجابة وتحقق جميع محددات النظم الصحية المثالية ومنها المساواة والعدالة والمرونة والأمان وسرعة وسهولة الحصول على الرعاية الصحية التي تتحقق بها التغطية الصحية الشاملة بجودة عالية وببنية تحية متكاملة متطورة ورقمية تستخدم أحدث التكنولوجيا التي تواكب التطور الحضاري الإنساني وعليهم دعم المنظومة التعليمية الصحية التي بدورها تجابه تحديات جمة وغير قادرة في بعض الدول العربية على تلبية الإحتياجات المطلوبة من الأطباء وكل التخصصات الطبية والتمريضية والفنية والإدارية وجميع الدول العربية تعاني من النقص الحاد في الكوادر الصحية والطبية والتمريضية ويعاني بعضها من تزايد أعداد هجرة الكوادر لأسباب عدة منها عدم توفر الإمكانيات وبيئة العمل المناسبة والدخول والمرتبات وبعضها نتيجة الصراعات الدائرة في مناطق التوتر مع العلم إن بعض الدول العربية عريقة في التعليم والتدريب الطبي ولديها من الإمكانيات التي تؤهلها لتعليم وتأهيل كل أحتياجات الدول العربية وبعض الدول العربية لها الإمكانيات التي تسمح بتوطين كل المنظومات التعليمية والتكنولوجية الطبية والصحية المنتشرة في العالم وقادرة على تأهيل وتكوين الكوادر الطبية العربية التي يحتاجها العالم العربي ولا ننسى أن الخبرات والقامات الطبية العربية المرموقة يعج بهم العالم وتتواجد في معظم الجامعات والمستشفيات والمراكز البحثية العالمية ..
اذا توحدت الجهود وسُخرت الإمكانيات العربية سوف يصنع العرب الفارق الحقيقي في خدمة الإنسانية جمعاء ويحققوا مفاهيم إنسانية مختلفة عن الطب والصحة التي تخدم البشرية برسالاتها السمحة وتحقق منظومات صحية قادرة على التكيف مع التحديات والمتغيرات والأزمات وقادرة على التعامل مع أي أزمة أو أي حالة طوارئ صحية ناشئة والحد من آثارها والتكيف مع الظروف المتغيرة بسرعة وسلاسة والمحافظة علي مستويات عالية من الرعاية الصحية لأمتها
وتجعل الدول لها القدرة على التنبؤ بالصدمات والحوادث المحتملة وقادرة على تهيئة المؤسسات والموارد البشرية لحالات الطوارئ وتجعلها قادرة على تأمين ما يكفي من الإمدادات والمعدات الطبية في أوقات الازمات والكوارث والطوارئ.
ولهذا كله وللتهديدات الصحية المتلاحقة، لزم على الجامعة العربية ووزراء الصحة العرب ما يلي:
1 – سرعة وضع السياسات الصحية الموحدة في مجابهة الطوارئ والكوارث والتهديدات الصحية وإنشاء إدارة الطوارئ الصحية بالأمانة الفنية بإدارة الصحة والشؤون الإنسانية بالجامعة العربية.
2- توحيد التشريعات الصحية العربية في التعامل مع الطوارئ والكوارث الصحية عامة والتنسيق بين دول الجوار وتسخير الإمكانات وتضبط التنقل والسفر وتحدد الواجبات والاحتياطات اللازمة ودور الأطراف في قواعد العبور والحجر وتقديم الخدمات الصحية المشتركة وتوحيد البروتوكولات الطبية بينهما والتجهيز بالاحتياجات الطبية اللازمة في المعابر الحدودية.
3- وضع مؤشرات قياسية جديدة تتخطى المعمول بها دوليا لضمان توفير خدمات رعاية صحية عالية تحت كل الظروف؛ ولهذا ضرورة العمل على مضاعفة القوى العاملة الصحية بما يحقق أعلى من المؤشرات المعتمدة دوليًا.
4- توحيد منصات البيانات والمعلومات الطبية وخصوصا في الاوبئة والأمراض المعدية.
5- تسخير كل الإمكانيات لتطوير منظومات التعليم والتدريب الطبي وخصوصًا في مكافحة الأوبئة والأمراض المعدية وفق المعايير الدولية الحديثة.
6- توجيه الأعداد الأكبر من الدارسين الى دراسة العلوم الطبية والتمريضية والصحية للحاجة الماسة لهم ولتغطية النقص الحاد وتعويض الفاقد السنوي للأسباب المعروفة.
7- توحيد الجهود البحثية بين مراكز وهيئات ومؤسسات البحوث الطبية والصحية وتبادل الخبرات والمعلومات والبيانات بينهم وتوفير الدعم اللازم لهم.
8- توجيه الاستثمارات العربية لزيادة الصناعات الدوائية واللقاحات والمستلزمات الطبية ودعمها، وتوحيد إجراءات التسجيل والحماية للصناعات الدوائية العربية .
9- إقامة الندوات والمؤتمرات وورش العمل الطبية ونقل التجارب والخبرات العربية الناجحة لتعميمها بين الدول العربية .
10- وضع برامج وآليات وخطط التدخل للطوارئ والإمداد والحجر والعزل والاخلاء الطبي للدولة العربية الواحدة أو بين الدول العربية في حالات الأزمات والطوارئ الصحية.
11- دعم برامج التوعية الصحية الشاملة للمجتمعات العربية ودعم المبادرات العربية المختلفة المعنية بالتوعية الصحية أو الكشف المبكر عن الأمراض أو برامج مكافحة التدخين والسمنة والسلوكيات الغذائية السيئة وغيرها.
12- التدريب الطبي المتكرر والمستمر على التعامل مع الأزمات والطوارئ الصحية لكل قطاعات المجتمع وخصوصا الهلال والصليب الأحمر والكشافة والمجتمع المدني والأجهزة الأمنية وفرق الإنقاذ، وتأسيس مؤسسات طوارئ محلية وإقليمية وعربية معززة بإستراتيجيات وخطط وبرامج طوارئ موحدة .
13- تشكيل لجنة عربية للشراء الموحد للأدوية والمستلزمات واللقاحات.
14- دعم برامج تطور التكنولوجيا الطبية الحديثة وتوطينها، ودعم الخبرات العربية المهاجرة والاستفادة منها.
15- دعم الإعلام الطبي العربي المتخصص للمساهمة في نشر الوعي وتبادل التجارب الناجحة ونشر المعلومات الطبية الحقيقية الموثقة.
16- ضرورة التوقيع على مذكرة التفاهم بين الجامعة العربية والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط ( الايمرو )، حيث تتبعه معظم الدول العربية والمكتب الإقليمي لأفريقيا لمنظمة الصحة العالمية وتتبعه الدول العربية الأخرى. هذا التنوع يمثل إضافةً إيجابية ويساهم في رفع الكفاءة للنظم الصحية والكوادر الطبية.
17- ضرورة العمل بالمعايير العربية لجودة الخدمات الصحية وتأهيل المؤسسات الصحية للحصول على الإعتماد المحلي والعربي أو الدولي.
18- وضع التشريعات والقوانين الصارمة لحماية الكوادر الطبية والمساعِدة، وحماية المؤسسات الصحية والعاملين بالخطوط الأمامية والإسعاف وأقسام الطوارئ ومراكز العزل.
19- على الدول العربية التعاون في تقييم إحتمالية التعرض للأخطار الطبيعية وغيرها ووضع الخطط الاستباقية للتوقي منها .
20- على الدول العربية التعاون في التقليل من الآثار السلبية وخصوصا مكافحة الأمراض الشائعة والتعاون المشترك في الإصحاح البيئي وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات الهشة والفقيرة والفئات العرضة للخطر.
21- توفير الدعم الطبي والصحي الكامل للدول العربية الفقيرة التي تعاني أنظمتها الصحية من النقص في السعة السريرية والتجهيزات الطبية والنقص في الكوادر الطبية والأدوية والتطعيمات وغيرها.
22- دعم الهيئات واللجان والمؤسسات والاتحادات الطبية والصحية العربية التابعة للجامعة العربية أو غيرها المنوطة بالأنشطة الطبية والصحية العربية المشتركة.
إن العرب بمجموعهم قادرون على مجابهة الأزمات وخلق تكامل صحي خدمي وصناعي واقتصادي وبتوحيد جهودهم قادرون على أن يكون لهم أنظمة صحية قوية ومرنة وقادرة على الاستجابة لأي طارئ وقادرون على توفير كل الاحتياجات المطلوبة من الأدوية والمستلزمات واللقاحات وقادرون على تأهيل الكوادر الطبية والتمريضية والفنية والإدارية للأنظمة الصحية العربية وغيرها.
معاً يستطيع العرب على الاكتفاء ذاتيًا من كل ما يلزم لتشغيل نظام صحي عربي متقدم ومتطور وقادر.
نعم قادرون
د. علي المبروك أبوقرين
عضو المجلس التنفيذي لاتحاد المستشفيات العربية
عضو اللجنة الفنية الاستشارية لمجلس وزراء الصحة العرب