مواجهة الاكتئاب
مواجهة الاكتئاب
رحلة نحو استعادة الأمل والصحة العقلية
يؤثر الاكتئاب بشكل كبير على الصحة العقلية من خلال التّسبب في مشاعر الحزن والفراغ وفقدان الفرح وعدم القدرة على الشعور بالمتعة، وهو ما قد يبدو أنه يحدث من دون سبب واضح. فالاكتئاب هو اضطراب مزاجي يؤثر على شعور الأفراد وتفكيرهم وتصرفهم وإدراكهم للعالم. يمكن أن يقوّض العلاقات ويجعل العمل والحفاظ على صحة جيدة أمرًا صعبًا، وفي الحالات الشديدة، قد يؤدي إلى الانتحار.
يُعدّ الاكتئاب اضطرابًا نفسيًا شائعًا وخطيرًا يُصيب البالغين والمراهقين والأطفال على حدٍ سواء، ويختلف عن التقلّبات المزاجية الطبيعية التي يمرّ بها الإنسان. إنه حالة مستمرة ومزمنة، تُؤثّر على مشاعر الشخص وأفكاره وسلوكه بشكل سلبي، وتستمرّ حتى مع تحسّن الظروف الخارجية.
تتضمن أسباب الإصابة بالكآبة مزيجًا من العوامل البيولوجية، بما في ذلك بنية الدماغ والكيمياء، والاختلالات الهرمونية، والاستعداد الجيني، ووجود حالات طبية معينة. يمكن أن يساهم تفاعل هذه العوامل في ظهور أعراض الاكتئاب واستمرارها.
فلا يوجد سبب طبي واحد محدّد للإصابة، ولكن تُشير الأبحاث إلى أنّ الاكتئاب ينشأ عن تفاعل معقّد بين العوامل الوراثية والبيئية.
العوامل الوراثية: تلعب الجينات دورًا هامًا في تحديد قابلية الشخص للإصابة بالاكتئاب؛ فإذا كان أحد أفراد العائلة مُصابًا بالاكتئاب، يزيد ذلك من خطر الإصابة لدى الآخرين من أفراد الأسرة.
العوامل البيئية: تُؤثّر على كيفية تعبير الجينات عن نفسها؛ وتشمل هذه العوامل الأحداث المُجهدة مثل فقدان الوظيفة أو الوفاة أو الطلاق، والإساءة الجسدية أو النفسية، وبعض الأمراض الجسدية مثل أمراض القلب أو السرطان.
لا يُسبب أيّ عامل منفردًا الاكتئاب، ولكن تفاعل العوامل الوراثية والبيئية هو ما يُؤدّي إلى ظهوره. فمثلاً، قد يكون الشخص مُستعدًا وراثيًا للإصابة بالاكتئاب، ولكنّه لا يُصاب به إلاّ عند تعرضه لحدث مُجهد في حياته.
كيف يؤثر الإكتئاب على حياة المريض؟
نوعية الحياة
يتسبب الاكتئاب في شعور مستمر بالحزن والاكتئاب، حتى في الأوقات التي يكون فيها هناك أسباب للسعادة أو الفرح، وقد يترافق الاكتئاب مع الشعور بالعجز وفقدان الأمل في المستقبل؛ كما يؤدي إلى انعزال اجتماعي وانخفاض الرغبة في التفاعل مع الأصدقاء والعائلة والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية. قد يشعر الأشخاص المصابون بالاكتئاب بالانزعاج والتعب حتى عند المشاركة في الأنشطة التي يستمتعون بها عادة. غالباً ما يصاحب الاكتئاب القلق والتوتر بشكل دائم، ما يؤثر على القدرة على الاسترخاء والاستمتاع بالحياة. وقد يعاني الأشخاص المصابون بالاكتئاب من صعوبة في التركيز والتفكير الواضح وذلك بسبب التشتّت الذهني.
كما يعاني الأشخاص المصابون بالاكتئاب بنقص في الطاقة والإرهاق الشديد، حتى بعد القيام بأنشطة بسيطة، ويمكن أن يترافق الإرهاق مع صعوبة في النوم أو الشعور بالنعاس الزائد.
تغيّرات عاطفية
يمكن أن يؤدي الاكتئاب إلى استمرار مشاعر الحزن والفراغ واليأس والتهيج، وتسيطر على المريض أفكار سلبية حول نفسه وحول المستقبل ويُصبح غير قادر على الشعور بالسعادة أو الرضا حتى في المواقف التي كان يستمتع بها في الماضي.
يُصبح المريض مُنعزلاً عن العائلة والأصدقاء ويفضّل قضاء وقته بمفرده، كما يتجنّب المشاركة في الأنشطة الاجتماعية لأنه يشعر بعدم الارتياح أو عدم الاهتمام. ويُهمل مظهره الخارجي ولا يهتم بنظافته أو ملبسه.
تأثّر الوظيفة المعرفية
يمكن للاكتئاب أن يُضعف التركيز والذاكرة واتخاذ القرار وقدرات حل المشكلات، فيجعل من الصعب التركيز على المهام وإكمالها بكفاءة. يُصبح من الصعب على المريض التركيز على المهام والبقاء مُنتبهًا لما يقوم به؛ وقد يُواجه صعوبة في تذكر المعلومات أو استرجاعها من ذاكرته. مع الوقت، يواجه مريض الكآبة صعوبة في اتخاذ القرار فيشعر بالتردد والتخبط عند اتخاذ القرارات حتى في الأمور البسيطة وتنخفض قدرته على إيجاد حلول فعّالة للمشاكل او المواقف اليومية التي قد يواجهها.
تُؤدّي هذه التأثيرات المعرفية إلى انخفاض الأداء في العمل أو الدراسة أو صعوبة في التركيز على العمل وإنجاز المهام اليومية بالشكل الصحيح.
الانسحاب الاجتماعي
قد يعزل الأفراد المصابون بالاكتئاب أنفسهم عن التفاعلات الاجتماعية، ما يؤدي إلى الشعور بالوحدة والانفصال وعدم الاهتمام بالحفاظ على العلاقات.
ففي كثير من الأحيان، يُؤدّي الاكتئاب إلى العزلة الاجتماعية عن العائلة والأصدقاء والانسحاب من الأنشطة الاجتماعية وفقدان الاهتمام بالحفاظ على العلاقات. تُؤدّي هذه السلوكيات إلى شعور عميق بالوحدة والانفصال عن الآخرين والانسحاب من المجتمع، ما يؤدي إلى العزلة الاجتماعية وتدهور العلاقات مع العائلة والأصدقاء.
التأثير على العمل أو الدراسة
يمكن أن يؤثر الاكتئاب على أداء العمل والإنتاجية والحضور والتحفيز، مما يجعل من الصعب الوفاء بالمسؤوليات والأهداف في مكان العمل أو الأماكن الأكاديمية. فالاكتئاب يمكن أن يتسبب في تراجع القدرة على التركيز والانتباه، بالإضافة إلى صعوبة في إنجاز المهام بشكل فعال فتنخفض الإنتاجية. الحالات الشديدة من الاكتئاب تجعل من الصعب الحضور إلى العمل أو المدرسة بانتظام. قد يتأخر المريض في الوصول أو يتغيّب بشكل متكرر، ما يؤثر على تقدّمه والتزامه بالمهام والمواعيد. مع الوقت، يقل الحماس والاهتمام بالعمل او الدراسة؛ وقد يتأثر التعاون مع الزملاء في العمل أو التواصل مع زملاء الدراسة، ما يؤثر على البيئة الاجتماعية والعملية.
أعراض جسدية
على الرغم من أن الاكتئاب يعتبر اضطرابًا نفسيًا، إلا أنه يمكن أن يؤثر أيضًا على الجسم. هناك بعض الأعراض الجسدية الشائعة للأشخاص المصابين بالاكتئاب منها:
- الإرهاق والتعب: الشعور بالتعب المستمر والإرهاق حتى بعد القيام بجهود بسيطة، ويصعب استعادة النشاط والحيوية.
- اضطرابات النوم: يمكن أن يتسبب الاكتئاب في صعوبة في النوم، مثل الأرق والاستيقاظ المتكرر في منتصف الليل، أو العكس تمامًا، حيث يمكن أن يكون لدى الأشخاص المصابين بالاكتئاب نومًا مفرطًا.
- تغيرات في الشهية والوزن: قد يحدث تغير في الشهية والوزن. قد يشعر بعض الأشخاص المصابين بالاكتئاب بفقدان الشهية وفقدان الوزن، في حين يمكن أن يشعر آخرون بزيادة الشهية وزيادة الوزن.
- آلام الجسم: يمكن أن يعاني الأشخاص المصابون بالاكتئاب من آلام الجسم غير المفسرة، مثل الصداع وآلام العضلات وآلام المفاصل. هذه الآلام قد تكون موجودة بشكل مستمر أو تترافق مع فترات التدهور المزاجي.
- اضطرابات الجهاز الهضمي: يمكن أن يؤثر الاكتئاب على الجهاز الهضمي ويسبب مشاكل مثل الغثيان والقيء، والإمساك أو الإسهال.
- اضطرابات الجهاز القلبي والتنفسي: قد يشعر الأشخاص المصابون بالاكتئاب بالتسارع القلبي، ألم في الصدر، صعوبة في التنفس، والشعور بالدوخة.
آليات العلاج
يعتمد اختيار العلاج على شدة الاكتئاب والتفضيلات الفردية؛ غالبًا ما يوصى بمزيج من العلاج النفسي والأدوية، خاصة للاكتئاب المعتدل إلى الشديد.
العلاج بالأدوية يشمل مضادات الاكتئاب وهي أدوية يمكن أن تساعد في تنظيم المواد الكيميائية في الدماغ التي تلعب دورًا في تنظيم الحالة المزاجية. من المهم ملاحظة أن مضادات الاكتئاب قد تستغرق عدة أسابيع لتبدأ في العمل وقد يكون لها آثار جانبية. يجب مناقشة هذه الآثار الجانبية مع الطبيب لمعرفة ما إذا كانت الأدوية مناسبة بحسب الحالة المرضية ومدى تقدّمها.
العلاج النفسي (العلاج بالكلام): يتضمن هذا النوع من العلاج التحدث إلى أخصائي صحة نفسية مؤهل. وهناك أنواع مختلفة من العلاج النفسي يمكن أن تكون فعالة للاكتئاب، مثل:
- العلاج المعرفي السلوكي (Cognitive Behavioral Therapy- CBT) يساعد على تحديد وتغيير أنماط التفكير السلبية التي تساهم في الاكتئاب. يعمل العلاج المعرفي السلوكي على مساعدة المريض في استبدال الأفكار السلبية بأفكار أكثر واقعية وإيجابية. يساعد العلاج المعرفي السلوكي المريض في تحليل الأفكار السلبية التي يعاني منها ومواجهتها. يتم توجيه المريض لاكتشاف الأفكار المشوّهة والتكهنات السلبية التي تؤثر على مزاجه وتعزز الاكتئاب. ثم يتعلم المريض تقديم أدلة معقولة وموازنة لهذه الأفكار السلبية. كما يتم مساعدة المريض على التعرف على السلوكيات الضارة أو القلقة التي تزيد من الاكتئاب وتعطل حياته اليومية، ويتعلّم استبدالها بسلوكيات إيجابية وصحية تساهم في تحسين المزاج والتفاعل الاجتماعي. يتعلم المريض كذلك تطوير اعتقادات أكثر إيجابية وموازنة، وتحسين تقدير الذات والتفاؤل والمرونة العقلية.
- وخلال جلسات العلاج المعرفي السلوكي يكتسب المريض مهارات التحكم في العواطف السلبية والتعامل معها بشكل صحيح. ويتعلم تحديد الأفكار المغلوطة التي تثير العواطف السلبية واستخدام تقنيات التفكير الإيجابي لتحسين المزاج وتقليل القلق. في الواقع، يسهم هذا النوع من العلاج في تعلم استراتيجيات الوقاية من الانتكاسات المحتملة في المستقبل وكيفية التعرف على علامات الاكتئاب المبكرة والتعامل معها بفعالية للحفاظ على تحسين حالته العامة وتجنب تدهورها.
- العلاج بالعلاقات الشخصية (Interpersonal Therapy- IPT) يركز هذا النوع من العلاج على تحسين علاقة المريض مع محيطه بما في ذلك أفراد العائلة والأصدقاء والزملاء. يمكن أن يساعد تحسين العلاقات على تخفيف أعراض الاكتئاب وتعزيز الصحة العقلية بشكل عام. يمكن للدعم العائلي والاجتماعي أن يوفر المساندة والتشجيع العاطفي للمريض، فيشعر بالأمان والراحة عندما يكون لديه شخص مقرّب يفهم معاناته ويقف إلى جانبه. يمكن للدعم العاطفي أن يعزز الشعور بالانتماء والقبول ويقلل من الشعور بالعزلة والوحدة. يعتمد العلاج على فكرة أن العلاقات الشخصية المضطربة أو المكسورة قد تكون عاملاً مساهمًا في الاكتئاب، فيتم العمل على تحسين هذه العلاقات لتحسين حالة المريض وذلك من خلال تحسين مهارات التواصل مع الآخرين فيتعلم المريض كيفية التعبير عن مشاعره واحتياجاته بشكل صحيح وفعّال، وكذلك كيفية الاستماع بفعالية للآخرين فتتحسّن العلاقات الشخصية وتخف العزلة والانعزالية التي قد تصاحب الاكتئاب.
يساعد العلاج بالعلاقات الشخصية المريض على التعامل مع الصراعات والمشاكل التي يواجهها؛ فيتم توجيه المريض لفهم أنماط الصراع والتوتر في العلاقات وكيفية التعامل معها بشكل بناء ومثمر. يمكن أن يشمل ذلك تعلم استراتيجيات حل المشكلات والتفاوض والتعاطف مع الآخرين.
توسيع دائرة الدعم الاجتماعي وكيفية بناء علاقات صحية وداعمة مع الأشخاص المهمين في حياته، سواء الأصدقاء أو أفراد العائلة أو المجتمع. توفر هذه العلاقات الدعم والتشجيع وتساعد في تقليل الشعور بالوحدة والاكتئاب. يعلّم العلاج بالعلاقات الشخصية المريض مهارات اجتماعية جديدة ومفيدة. يمكن أن تتضمن هذه المهارات التعرف على المشاعر واحترام مشاعر الآخرين، وتحسين التعاطف والتفاعل الاجتماعي، وتعلّم استراتيجيات حل النزاعات والتعامل مع العداء والانتقادات بشكل بنّاء.