ارتفاع معدلات السمنة
ارتفاع معدلات السمنة
تحدٍ عالمي يستدعي التدخل العاجل
برزت السمنة كأزمة صحية عالمية ملحوظة، حيث شهدت معدلات انتشارها ارتفاعًا حادًا منذ عام 1990، إذ تضاعفت نسبة البالغين المصابين بها أكثر من مرتين وتضاعفت بين المراهقين أربع مرات، بحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية.
فمن بين 2.5 مليار بالغ يعانون من زيادة الوزن في ذلك العام، كان 890 مليونًا منهم مصابين بالسمنة، أي ما يعادل 43% من البالغين يعانون من زيادة الوزن و 16% يعانون من السمنة. ولم تستثنِ هذه المشكلة الفئات الأصغر سنًا، حيث كان هناك 37 مليون طفل دون الخامسة وأكثر من 390 مليون طفل ومراهق (بين 5 و19 عامًا) يعانون من زيادة الوزن، من بينهم 160 مليونًا مصابًا بالسمنة.
كما تشير توقعات دراسة عالمية حديثة نُشرت في مجلة “The Lancet” وشملت بيانات أكثر من 200 دولة، إلى أن أكثر من نصف البالغين وثلث الأطفال والمراهقين والشباب حول العالم سيعانون إما من زيادة الوزن أو من السمنة بحلول عام 2050.
ويحذر الباحثون من أن مستويات السمنة من المتوقع أن تتسارع بشكل كبير خلال الفترة المتبقية من هذا العقد، وخاصة في البلدان ذات الدخل المنخفض. ومع ذلك، يؤكد الخبراء أنه إذا اتخذت الحكومات إجراءات عاجلة الآن، فلا يزال هناك وقت لمنع هذه المأساة.
تُصنف السمنة كمرض مزمن ومعقد يتّسم بتراكم غير طبيعي ومفرط للدهون في الجسم، وهو تراكم يصل إلى درجة إلحاق الضرر بصحة الفرد. تحظى هذه الحالة باعتراف واسع النطاق من قِبل الهيئات الصحية الدولية، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية والعديد من الجمعيات الطبية المتخصصة.
يُعتمد مؤشر كتلة الجسم (BMI) كمعيار أساسي لتعريف السمنة لدى البالغين، حيث تُعتبر القيمة 30 أو أعلى مؤشرًا على الإصابة بها. وعلى الرغم من أن مؤشر كتلة الجسم يظل أداة فحص وتقييم أولية مهمة، إلا أن الفهم الحديث للسمنة يتجاوز هذا المؤشر ليشمل اعتبارها حالة متعددة الأوجه والجذور، حيث تتداخل فيها عوامل وراثية وبيئية وسلوكية معقدة لتحديد مدى تطورها وتأثيرها على الفرد. تُعتبر حالة عدم التوازن بين السعرات الحرارية المتناولة والمستهلكة من أبرز الأسباب والعوامل المحرّكة للسمنة، حيث يلعب الاستهلاك المفرط للأطعمة ذات الكثافة العالية من الطاقة، بالإضافة إلى تبني أنماط حياة تتسم بالخمول وقلة الحركة، دورًا محوريًا في زيادة الوزن وتراكم الدهون في الجسم. ولأغراض التصنيف والتشخيص، يتم تقسيم مستويات الوزن بناءً على مؤشر كتلة الجسم إلى فئات مختلفة، تبدأ بزيادة الوزن (مؤشر كتلة الجسم 25-29.9)، ثم تتدرج إلى السمنة من الدرجة الأولى (30-34.9)، والدرجة الثانية (35-39.9)، وصولًا إلى السمنة من الدرجة الثالثة (≥40)، والتي تُعتبر الأكثر خطورة على الصحة.
عوامل تسبّب السمنة
تتضافر مجموعة معقدة من العوامل الوراثية والبيئية والسلوكية والفسيولوجية لتشكل الأسباب الرئيسية للسمنة. في جوهر الأمر، يكمن السبب الأساسي في اختلال توازن الطاقة، حيث يتجاوز استهلاك السعرات الحرارية معدل إنفاقها، ما يؤدي إلى تخزين الفائض على شكل دهون في الجسم. ويتأثر هذا الخلل بعدة عوامل، بما في ذلك الأنظمة الغذائية الغنية بالسعرات الحرارية والتي تعتمد غالبًا على الأطعمة المصنعة والسريعة والمشروبات السكرية والكميات الكبيرة من الطعام.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب العوامل الوراثية والبيولوجية دورًا هامًا، حيث يُقدر أن ما بين 40 إلى 70% من خطر الإصابة بالسمنة مرتبط بالجينات التي تؤثر على تخزين الدهون وتنظيم الشهية والتمثيل الغذائي.
كما أن الاختلالات الهرمونية مثل مقاومة الأنسولين، ومقاومة اللبتين، واضطرابات الغدة الدرقية، تُعطّل إشارات الجوع وتخزين الدهون، ما يربك توازن الطاقة في الجسم ويؤدي إلى تراكم الدهون بشكل غير طبيعي. هذه العوامل تؤثر مباشرة في قدرة الجسم على تنظيم الشهية والتمثيل الغذائي، ما يجعل فقدان الوزن أكثر صعوبة. ولا يمكن إغفال دور العوامل فوق الجينية، حيث تشير الدراسات إلى أن العوامل البيئية مثل نوعية الغذاء، ونمط الحياة، والتعرض للملوثات قد تؤدي إلى تغييرات في التعبير الجيني المرتبط بعملية تنظيم الوزن وتخزين الدهون، مما يترك آثارًا طويلة الأمد تبدأ أحيانًا منذ الطفولة.
أما بالنسبة للعوامل البيئية، فيبرز ما يُعرف بـ “البيئة المولّدة للسمنة”، وهي بيئة يتوفر فيها الطعام الرخيص والغني بالسعرات الحرارية بشكل كبير، ويتم تسويقه بطرق مغرية ومكثفة، ما يشجع على الإفراط في تناول الطعام غير الصحي. كما أن التصميم الحضري في العديد من المناطق لا يوفّر مساحات خضراء أو أماكن آمنة لممارسة النشاط البدني، ويعزز نمط الحياة الخامل، خاصة مع الاعتماد الزائد على السيارات بدلاً من المشي أو استخدام وسائل النقل النشط. وتلعب العوامل الاجتماعية والاقتصادية دورًا بارزًا، إذ يحدّ الفقر من قدرة الأفراد على اختيار أطعمة صحية أو الانخراط في نمط حياة نشط، كما يقلل من فرص الحصول على رعاية صحية مناسبة تساعد في إدارة الوزن ومشكلاته.
وعلى الصعيد السلوكي والنفسي، فإن العادات الغذائية الخاطئة مثل الإفراط في تناول الطعام خارج المنزل، والأكل العاطفي كرد فعل على التوتر أو الملل، واستهلاك الكحول، تُعدّ من العوامل التي تزيد خطر السمنة. كما أن الحرمان المزمن من النوم يؤدي إلى اختلال توازن الهرمونات المنظمة للشهية، مثل الجريلين الذي يزيد من الإحساس بالجوع، واللبتين الذي يُخفضه، مما يؤدي إلى تناول كميات أكبر من الطعام دون حاجة فعلية. يمكن أن يؤدي التوتر المزمن إلى زيادة الرغبة في تناول الأطعمة الغنية بالدهون والسكريات، مما يساهم في زيادة الوزن. كما أن بعض الحالات الطبية مثل قصور الغدة الدرقية، ومتلازمة كوشينغ، وتكيّس المبايض، إضافةً إلى بعض الأدوية كالمضادات الاكتئابية والستيرويدات، قد تُسبب اضطرابات في الأيض وزيادة الشهية.
وتُسهم العوامل الاجتماعية والنمائية أيضًا في خطر السمنة، مثل بدانة الأم أثناء الحمل، وسرعة زيادة وزن الرضيع، وسوء التغذية في الطفولة، إلى جانب العادات الثقافية التي تشجع على أنماط غذائية غير صحية.